حديث ((ليس أحد يحاسب إلا هلك....))
 
قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها من صحيحه وحدثني عبد الرحمن بن بشر بن الحكم العبدي حدثنا يحيى ـ يعني ابن سعيد القطان ـ حدثنا أبو يونس القشيري حدثنا ابن أبي ملكية عن القاسم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: ((ليس أحد يحاسب إلا هلك، قلت، يا رسول الله أليس الله يقول: حساباً يسيراً؟ قال: ذاك العرض، ولكن من نوقش الحساب هلك)).
وحدثني عبد الرحمن بن بشر حدثني يحيى ـ وهو القطان ـ عن عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: ((من نوقش الحساب هلك))، ثم ذكر بمثل حديث أبي يونس.
المبحث الأول: التخريج:
روى مسلم ـ رحمه الله ـ هذا الحديث من هذين الطريقين، ورواه أيضاً من طريقين غيرهما، فقال قبل هذين الطريقين: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعليّ بن حجر جميعاً عن إسماعيل، قال أبو بكر: حدثنا ابن علية عن أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من حوسب يوم القيامة عذب. فقلت: أليس قد قال الله عزوجل: ( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً)؟ فقال: ليس ذاك الحساب، إنما ذاك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب)).
حدثني أبو الربيع العتكي وأبو كامل قالا: حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب بهذا الإسناد نحوه.
وأخرجه البخاري في أربعة مواضع من صحيحه، أولها في (كتاب العلم، باب من سمع شيئاً فراجع حتى يعرفه). والثاني في (كتاب التفسير، باب ( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً). والثالث والرابع في (كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب).
وأخرجه أبو داود في (كتاب الجنائز) من سننه. وأخرجه الترمذي في (كتاب صفة القيامة)، وفي (كتاب التفسير) من جامعه.
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها، ومن طريق نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها، ومن طريق عبيد الله بن أبي زياد عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها، ومن طريق بكار بن عبد الله بن وهب الصنعاني عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها، ومن طريق عبد الجبار بن ورد عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ مسلم عبد الرحمن بن بشر، قال الحافظ في (التقريب): عبد الرحمن بن بشر بن الحكم العبدي، أبو محمد النيسابوري، ثقة، من صغار العاشرة، مات سنة ستين ـ أي بعد المائتين وقيل بعدها ـ، ورمز لكونه من رجال البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه.
وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: سفيان بن عيينة، وعبد الرزاق بن همام، وبهز بن أسد، ويحيى بن سعيد القطان. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: البخاري، وإبراهيم الحربي، وابن خزيمة. ثم ذكر بعض الثناء عليه، وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه البخاري ثلاثة أو أربعة، ومسلم ثلاثة وعشرين.
الثاني: يحيى بن سعيد القطان، قال في (التقريب): يحيى بن سعيد بن فروخ ـ بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وسكون الواو ثم معجمة ـ التميمي، أبو سعيد القطان البصري، ثقة متقن، حافظ، إمام قدوة، من كبار التاسعة، مات سنة ثمان وتسعين ـ أي بعد المائة ـ وله ثمان وسبعون، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث التاسع من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
الثالث: أبو يونس القشيري، قال الحافظ في (التقريب): حاتم بن أبي صغيرة ـ بكسر الغين المعجمة ـ أبو يونس البصري، وأبو صغيرة اسمه مسلم وهو جده لأمه، وقيل زوج أمه، ثقة من السادسة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): القشيري أو الباهلي مولاهم، البصري، وأبو صغيرة أبو أمه أو زوج أمه. روى عن عطاء، وعمرو بن دينار، وابن أبي مليكة، وسماك بن حرب، والنعمان بن سالم، وأبي قزعة، وغيرهم. وعنه شعبة، وابن المبارك، وابن أبي عدي، والقطان، وروح بن عبادة، وعبد الله بن بكر السهمي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وغيرهم. ونقل توثيقه عن ابن معين، وأبي حاتم، والنسائي، وأحمد. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
الرابع: عثمان بن الأسود، قال في (التقريب): عثمان بن الأسود بن موسى المكي مولى بني جمح، ثقة ثبت، من كبار السابعة، مات سنة ستين ـ أي بعد المائة أو قبلها ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: سليمان الأحول، وابن أبي مليكة، وسالم بن عبد الله بن عمر، وسعيد بن جبير. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: الثوري، وعبد الله بن إدريس، وابن المبارك، والقطان. ونقل توثيقه عن يحيى القطان، وأحمد، وابن معين، وأبي حاتم، وابن سعد، والعجلي، وابن نمير.
الخامس: ابن أبي مليكة، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة بالتصغير، ابن عبد الله بن جدعان، اسم أبي مليكة زهير التيمي، المدني، أدرك ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثقة فقيه، من الثالثة، مات سنة سبع عشرة ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وفي (تهذيب التهذيب) و(الخلاصة) و(الجمع بين الصحيحين): المكي، وذكر الحافظ في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم من الصحابة والتابعين منهم: العبادلة الأربعة، وأسماء، وعائشة، وأم سلمة رضي الله عنه ، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: حميد الطويل، وأيوب، وجرير بن حازم، وعثمان بن الأسود، وأبو يونس حاتم بن أبي صغيرة، ونافع بن عمر الجمحي، والليث. ونقل توثيقه عن أبي زرعة، وأبي حاتم، وابن سعد، وقال: قال العجلي: مكي تابعي ثقة. وقال ابن حبان في (الثقات): رأى ثمانين من الصحابة.
السادس: القاسم بن محمد، قال الحافظ في (التقريب): القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي، ثقة، أحد الفقهاء بالمدينة، قال أيوب: ما رأيت أفضل منه. من كبار الثالثة، مات سنة ست ومائة على الصحيح، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أبيه، وعمته عائشة، وعن العبادلة، وعبد الله بن جعفر، وأبي هريرة، وغيرهم سماهم. ثم قال: روى عنه ابنه عبد الرحمن، والشعبي وسالم بن عبد الله بن عمر وهما من أقرانه، ويحيى وسعد بنا سعيد الأنصاري، وابن أبي مليكة، ونافع مولى ابن عمر، والزهري، وغيرهم سماهم. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه رحمه الله.
السابع: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقد مرَّ ذكرها في إسناد الحديث الثامن.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) الرواة السبعة في الإسنادين خرج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلا شيخ مسلم عبد الرحمن بن بشر فلم يخرج له الترمذي والنسائي.
(2) في الإسناد مدنيان وهما: عائشة وابن أخيها القاسم بن محمد، ومكيان وهما: ابن أبي مليكة وعثمان بن الأسود، وبصريان وهما: أبو يونس القشيري ويحيى بن سعيد القطان، والسابع نيسابوري وهو عبد الرحمن بن بشر شيخ مسلم.
(3) في الإسناد راو اشتهر باسمه وبكنيته وهو: أبو يونس القشيري واسمه حاتم بن أبي صغيرة، ولهذا يأتي ذكره بالكنية أحياناً وأحياناً بالاسم.
(4) ذكر الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر): أن من المهم في علم المصطلح معرفة من نسب إلى غير أبيه، وفي هذا الإسناد شاهد لذلك: فأبو يونس القشيري اسمه حاتم بن أبي صغيرة وأبو صغيرة أبو أمه أو زوج أمه.
(5) في الإسناد راو اشتهر بالنسبة إلى جده وهو: ابن أبي مليكة فهو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة.
(6) في الإسناد راو هو أحد الفقهاء السبعة في المدينة وهو: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
(7) في الإسناد تابعيان وهما: القاسم بن محمد، وابن أبي مليكة، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.
(8) ابن أبي مليكة يروي عن القاسم عن عائشة في الإسناد الأول، ويروى عن عائشة كما في الإسناد الثاني، وروايته عن القاسم من رواية الأقران.
(9) يحيى بن سعيد القطان قال فيه الإمام أحمد: كان إليه المنتهى في التثبت بالبصرة. وهي من أرفع مراتب التعديل.
(10) هذا الحديث أحد الأحاديث التي انتقدها الدار قطني على البخاري ومسلم في الصحيحين. قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: هذا مما استدركه الدار قطني على البخاري ومسلم، وقال: اختلف العلماء عن ابن أبي مليكة، فروي عنه عن عائشة، وروى عنه عن القاسم عنها، وهذا استدراك ضعيف لأنه محمول على أنه سمع من القاسم عن عائشة وسمعه أيضاً منها بلا واسطة فرواه بالوجهين، وقد سبقت نظائر هذا. انتهى.
وقال الحافظ في مقدمة الفتح: قال الدار قطني: وأخرجا جميعاً حديث أيوب وعثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة عن عائشة: ((من حوسب عذب)). وأخرجه البخاري من حديث نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة كذلك. وأخرجاه من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة على الاختلاف. ثم قال الحافظ: قلت: في رواية البخاري من حديث عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة: سمعت عائشة، فالظاهر أنه أخرجه على الاحتمال بأن يكون ابن أبي مليكة سمعه من القاسم عن عائشة، ثم سمعه من عائشة فحدث به على الوجهين كما في نظائره.


المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) بين صلى الله عليه وسلم  أن الحساب الذي يكون صاحبه هالكاً هو الحساب مع المناقشة، وذلك بعد أن استشكلته عائشة مع قوله تعالى: )فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه ِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ) حيث أن الآية أثبتت الحساب مع النجاة، وبهذا البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم  يتبين أنه لا منافاة بين الآية والحديث، فالهلاك الذي يكون لمن حوسب فيما إذا نوقش الحساب، والنجاة التي تكون لمن حوسب حساباً يسيراً فيمن لم يناقش الحساب، وهذا هو وجه الجمع بين الآية والحديث.
(2) قوله صلى الله عليه وسلم : ((ذاك العرض)): الإشارة إلى الحساب الذي تضمنته الآية. وقوله: (نوقش) من المناقشة، وأصلها الاستخراج ومنه نقش الشوكة إذا استخرجها.
(3) من فقه الحديث وما يستنبط منه:
(1) فقه عائشة ودقة فهمها رضي الله عنها.
(2) ما كانت عليه أم المؤمنين رضي الله عنها من الحرص على تفهم معاني الحديث.
(3) أن الصحابة رضي الله عنه  جمعوا بين العلم والعمل.
(4) أن النبي صلى الله عليه وسلم  لم يكن يتضجر من المراجعة في العلم.
(5) مراجعة المتعلم للعالم وسؤاله عما يشكل.
(6) مقابلة السنة بالكتاب والكتاب بالسنة.
(7) إثبات الحساب.
(8) تفاوت الناس في الحساب.
(9) جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
(10) أن السنة مفسرة ومبينة للكتاب.
(11) إثبات العرض.
(12) إثبات البعث لأن ما ذكر في الحديث دال عليه وتابع له.
(13) الإيمان بالغيب.
(14) أن مثل سؤال عائشة رضي الله عنها ليس داخلاً فيما نهي عنه في قوله: ( اَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء)  الآية.
(15) أن من حصلت له المناقشة في الحساب هلك.
(16) أن كل ناج من الهلاك لم يناقش الحساب.
(17) تفضل الله وامتنانه على العباد وإحسانه إليهم.


بحث عن بحث