حديث (يضحك الله لرجلين يقتل أحدهما الآخر....)

 

قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الإمارة من صحيحه: حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم  فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يضحك الله لرجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة، قالوا كيف يا رسول الله؟ قال: يقتل هذا فيلج الجنة ثم يتوب الله على الآخر فيهديه إلى الإسلام ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد)).

المبحث الأول: التخريج:

أخرج مسلم ـ رحمه الله ـ هذا الحديث من ثلاث طرق هذه ثالثتها، وقال في الأولى والثانية: حدثنا محمد بن أبي عمر المكي حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: ((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة، فقالوا: كيف يا رسول الله ؟ قال: يقاتل هذا في سبيل الله عز وجل فيستشهد، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيقاتل في سبيل الله عز وجل فيستشهد))، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وأبو كريب قالوا: حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي الزناد بهذا الإسناد مثله.

وأخرجه البخاري في (كتاب الجهاد، باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم فيسدد بعد ويقتل)، فقال: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: ((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد)).

وأخرجه النسائي في (كتاب الجهاد) من سننه في (باب اجتماع القاتل والمقتول في سبيل الله بالجنة)، فقال: أخبرنا محمد بن منصور قال حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه  عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: ((إن الله عز وجل يعجب من رجلين يقتل أحدهما صاحبه))، وقال مرة أخرى ((ليضحك من رجلين يقتل أحدهما صاحبه ثم يدخلان الجنة)). أخبرنا محمد بن سلمة والحارث بن مسكين ـ قراءة عليه وأنا أسمع ـ عن ابن القاسم قال حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال:((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيقاتل فيستشهد)).

وأخرجه ابن ماجه في أوائل سننه (باب فيما أنكرت الجهمية)، فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله يضحك إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيستشهد، ثم يتوب الله على قاتله فيسلم فيقاتل في سبيل الله فيستشهد)).

وأخرجه مالك في (الموطأ) عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: ((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ثم يتوب الله على القاتل فيقاتل فيستشهد)).

وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، فقال: حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن الله عز وجل ليضحك من الرجلين قتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة جميعاً، يقول: كان كافراً قتل مسلماً، ثم إن الكافر أسلم قبل أن يموت فأدخلهما الله عز وجل الجنة)). وقال: حدثنا روح حدثنا محمد بن أبي حفصة حدثنا ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: ((إن الله عز وجل ليضحك إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر فيدخلهما الله عز وجل الجنة. قيل كيف يكون ذلك؟ قال: يكون أحدهما كافراً فيقتل الآخر ثم يسلم فيغزو في سبيل الله فيقتل)).

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ مسلم محمد بن رافع، قال الحافظ في (التقريب): محمد بن رافع القشيري النيسابوري ثقة عابد، من الحادية عشرة، مات سنة خمس وأربعين ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى ابن ماجه.

وقال في (تهذيب التهذيب): محمد بن رافع بن أبي زيد واسمه سابور القشيري مولاهم، أبو عبد الله النيسابوري الزاهد، روى عن ابن عيينه، وأبي معاوية الضرير، وعبد الرزاق فأكثر عنه، وغيرهم سماهم. وقال روى عنه الجماعة سوى ابن ماجه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم سماهم. وذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن النسائي، ومسلم، ومحمد بن شاذان، وأحمد بن سيار، ومسلمة، وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه البخاري سبعة عشر حديثاً، ومسلم ثلاثمائة واثنين وستين حديثاً.

الثاني: عبد الرزاق وهو ابن همام، قال الحافظ في (التقريب): عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري مولاهم أبو بكر الصنعاني، ثقة حافظ مصنف شهير، عمي في آخر عمره فتغير، وكان يتشيع، من التاسعة، مات سنة إحدى عشرة ـ أي بعد المائتين ـ وله خمس وثمانون، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع معمراً، وابن جريج، والثوري، وغير واحد عندهما. روى عنه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وإسحاق بن منصور، ومحمود بن غيلان، وغير واحد عندهما، ثم ذكر جماعة رووا عنه عند البخاري، وجماعة رووا عنه عند مسلم ومنهم: محمد بن رافع.

وقال الحافظ في مقدمة فتح الباري: أحد الحفاظ الأثبات، صاحب التصانيف، وثقه الأئمة كلهم إلا العباس بن عبد العظيم العنبري وحده، فتكلم بكلام أفرط فيه ولم يوافقه عليه أحد، ثم ذكر بعض القول عن الأئمة فيه وقال قال النسائي: فيه نظر، لمن كتب عنه بأخره كتبوا عنه أحاديث مناكير. وقال الأثرم عن أحمد: من سمع منه بعدما عمى فليس بشيء، وما كان في كتبه فهو صحيح، وما ليس في كتبه فإنه كان يلقن فيتلقن.

ثم قال الحافظ: قلت احتج به الشيخان في جملة من حديث من سمع منه قبل الاختلاط، وضابط ذلك من سمع منه قبل المائتين، فأما بعدها فكان قد تغير.

الثالث: معمر، قال في (التقريب): معمر بن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصري نزيل اليمن، ثقة، ثبت فاضل إلاّ أن في روايته عن ثابت والأعمش وهشام بن عروة شيئاً، وكذا فيما حدث به في البصرة، من كبار السابعة، مات سنة أربع وخمسين ـ أي بعد المائة ـ وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الثاني من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

الرابع: همام بن منبه: قال في (التقريب): همام بن منبه بن كامل الصنعاني، أبو عقبة، أخو وهب، من الرابعة، مات سنة اثنتين وثلاثين ـ أي بعد المائة على الصحيح ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أبي هريرة، ومعاوية، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير. وعنه أخوه وهب بن منبه، وابن أخيه عقيل بن معقل بن منبه، وعليّ بن الحسن بن أنس، ومعمر بن راشد. قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في (الثقات). وقال الميموني عن أحمد: كان يغزو، وكان يشتري الكتب لأخيه وهب، فجالس أبا هريرة فسمع منه أحاديث، وهي نحو من أربعين ومائة حديث بإسناد واحد، وأدركه معمر وقد كبر وسقط حاجباه على عينيه، فقرأ عليه همام حتى إذا ملّ أخذ معمر فقرأ الباقي، وكان عبد الرزاق لا يعرف ما قرئ عليه مما قرأ هو. وقال: وقال العجلي: يماني تابعي ثقة. وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): أبو عقبة الصنعاني اليماني عن أبي هريرة نسخة صحيحة، ومعاوية، وابن عباس، وطائفة.

الخامس: أبو هريرة رضي الله عنه  وقد تكرر ذكره.

المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث.

(1) رجال الإسناد الخمسة خرج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلا شيخ مسلم محمد بن رافع فلم يخرج له ابن ماجه.

(2) رجال الإسناد يمانيون إلا الصحابي فهو مدني وإلا شيخ مسلم فهو نيسابوري.

(3) شيخ مسلم محمد بن رافع هو أيضاً شيخ للبخاري وأبي داود والترمذي والنسائي، كل منهم روى عنه مباشرة.

(4) شيخ مسلم محمد بن رافع يوافقه في النسبة إلى الوطن فهما نيسابوريان، وإلى القبيلة فهما قشيريان، إلاّ أن محمد بن رافع مولاهم ومسلماً من أنفسهم.

(5) رجال الإسناد من الموالي سوى الصحابي.

(6) عبد الرزاق بن همام ممن تغير في آخر حياته والذي خرج له من الحديث في الصحيحين مما سمع منه قبل الاختلاط.

(7) في الإسناد ثلاث من صيغ الأداء وهي التحديث والإخبار والعنعنة.

(8) همام بن منبه له صحيفة رواها عن أبي هريرة، وهذا الحديث من أحاديث هذه الصحيفة وهي بإسناد واحد عن عبد الرزاق عن معمر عنه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وقد اتفق الشيخان على إخراج أحاديث منها، وانفرد كل منهما في أحاديث، وهذا الحديث انفرد بإخراجه مسلم من هذه الصحيفة، وللمحدثين مسالك في كيفية الرواية عند إفراد حديث أو أحاديث في صحيفة، قال الحافظ في (الفتح) عند شرح حديث من صحيفة همام في (كتاب الإيمان، باب حسن إسلام المرء): قوله (عن همام هو ابن منبه) وهذا الحديث من نسخته المشهورة المروية بإسناد واحد عن عبد الرزاق عن معمر عنه، وقد اختلف العلماء في إفراد حديث من نسخة، هل يساق بإسنادها ولو لم يكن متبدءاً به أولاً. فالجمهور على الجواز ومنهم البخاري، وقيل: يمتنع، وقيل: يبدأ أبداً بأول حديث ويذكر بعده ما أراد. وتوسط مسلم فأتى بلفظ يشعر بأن المفرد من جملة النسخة، فيقول في مثل هذا إذا انتهى الإسناد: فذكر أحاديث منها كذا، ثم يذكر أي حديث أراد منها.

وقال في شرح حديث: ((مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً)) الحديث في (كتاب الأنبياء) وهو من صحيفة شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، قال: وأما مسلم فإنه في نسخة همام عن أبي هريرة، ينبه على أنه لم يسمع الإسناد في كل حديث منها، فإنه يسوق الإسناد إلى أبي هريرة ثم يقول: فذكر أحاديث منها كذا وكذا، وصنيعه ذلك حسن جداً، والله أعلم. انتهى.

(9) عبد الرزاق هو ابن همام الصنعاني ولا لبس في عدم نسبته لأنه ليس في رجال الصحيحين من يسمى عبد الرزاق سواه.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) قوله (يضحك الله لرجلين): فيه إثبات صفة الضحك لله على وجه يليق بكمال الله وجلاله، والكلام في هذه الصفة كالكلام في سائر الصفات، يجب الإيمان بكل ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم ، إثباتاً على ما يليق به دون تشبيه له بخلقه، ودون تكييف للصفة، ودون تعطيل أو تأويل، كما قال الله تعالى: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )، فكما أثبتت الذات وهي لا تشبه الذوات فكذا تثبت الصفات التي ثبتت في الكتاب والسنة ولا تشبه صفات المخلوقين، ولا يلزم من الإثبات التشبيه بصفات المخلوقين، فإن الإثبات قد يكون مع تشبيه وهو باطل ومنكر من القول وزور، ويكون بدونه وهو الحق الذي لا يسوغ غيره.

أما نفي الصفات أو تأويلها بحجة أن الإثبات يوهم التشبيه، فهو أولاً توهم باطل لأنه لا يلزم من الإثبات التشبيه، وثانياً نفي الصفات هو أولاً تعطيل وثانيًا هو تشبيه بالمعدومات، أما تأويلها عن معانيها فهو تحريف وتفسير للكلام بما لا يقتضيه، والحق وسط بين الإفراط والتفريط، وسط بين الذين أثبتوا الصفات وأفرطوا إذ شبهوا الله بخلقه، وبين الذين فرطوا فنفوا الصفات أو تأوّلوها بقصد تنـزيه الله عن مشابهة الخلق.

والمذهب الحق وسط بين الطرفين، ففيه الإثبات فلا نفي ولا تأويل، وفيه التنـزيه فلا تشبيه ولا تمثيل، وكل من المشبهة والنفاة جمعوا بين إساءة وإحسان، فالمشبهة أحسنوا إذ أثبتوا فلم ينفوا الصفات، وأساءوا إذ شبهوا ومثلوا. والنفاة أحسنوا إذ نزهوا الله عن مشابهة خلقه، وأساءوا إذ نفوا عن الله ما أثبته لنفسه. وأهل السنة والجماعة جمعوا بين الحسنيين، وسلموا من الإساءتين، فالإحسان الذي عند الطرفين عندهم وليس عندهم ما عند كل من الإساءة، وذلك أنهم أثبتوا ما أثبت في الكتاب والسنة من الصفات، ونزهوا الله عن مشابهة خلقه كما قال تعالى: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )، فأول الآية تنـزيه وآخرها إثبات. فمثل هذا المذهب الحق بالنسبة إلى الطرفين المتقابلين كاللبن الخالص السائغ للشاربين الذي يخرج من بين فرث ودم.

(2) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) إثبات صفة الضحك لله على الوجه اللائق بكمال الله وجلاله.

(2) فضل الجهاد في سبيل الله.

(3) بشارة من استشهد في سبيل الله بالجنة.

(4) أن الأعمال بالخواتيم.

(5) معرفة الصحابة رضي الله عنه بكلام النبي صلى الله عليه وسلم  واستفسارهم عما قد يخفى عليهم.

(6) أن الرجال هم أهل الحرب والجهاد.

(7) التنبيه على أن الجهاد الذي وعد الله الثواب عليه هو ما كان في سبيله.

(8) بيان فضل الاستشهاد في سبيل الله.

(9) أن الإسلام يجبُّ ما قبله.

(10) تفضل الله على من شاء بالهداية إلى الإسلام.

(11) تنبيه من قتل غيره في سبيل الله إلى قتال الكفار كما قاتل المسلمين ليحصل له فضل الاستشهاد في سبيل الله.

(12) الإيمان بالجنة وهو من الإيمان بالغيب.

(13) أن الدين عند الله الإسلام فلا يقبل من أحد سواه.

 



بحث عن بحث