عناصر حلاوة الإيمان

 

 

 

عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) متفق عليه(1).

هذا حديث عظيم، جليل القدر، يسمو بالمؤمن في مكانة عالية من الإيمان حتى يجد حلاوته ومذاقه.

قال النووي: (هذا حديث عظيم من أصول الدين)(2).

وقد احتوى على وقفات مهمة، نعرضها على النحو التالي:

الوقفة الأولى: (قوله - صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثٌ من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان..) أي: ثلاث خصال من حصلن له وجد حلاوة الإيمان، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: (قال الشيخ أبو محمد بن أبي حمزة: إنما عبر بالحلاوة؛ لأن الله شبه الإيمان بالشجرة في قوله تعالى: (ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة)(3)، فالكلمة هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانها اتباع الأوامر، واجتناب النواهي، ,ورقها ما يهتم المؤمن به من الخير، وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جني الثمرة، وغاية كماله تناهي نضج الثمرة، وبه تظهر حلاوتها)(4).

قال صاحب كتاب (تيسير العزيز الحميد): (والشجرة لها ثمرة، والثمرة لها حلاوة، فكذلك شجرة الإيمان لا بد لها من ثمرة، ولا بد لتلك الثمرة من حلاوة، ولكن قد يجدها المؤمن، وقد لا يجدها، وإنما يجدها بما ذكر في الحديث)(5) اهـ.

الوقفة الثانية: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما...).

المراد من هذه الجملة أن يكون الله ورسوله عند العبد أحب إليه مما سواهما حبّا قلبياً، كما ورد في بعض الأحاديث: (أحبوا الله بكل قلوبكم)(6)، فيميل بكلّيته إلى الله وحده، حتى يكون الله وحده محبوبه ومعبوده، وإنما يحب من سواه تبعاً لمحبته، كما يحبُّ الأنبياء، والمرسلين، والملائكة، والصالحين، لما كان يحبهم ربه – سبحانه-، وذلك موجب لمحبة ما يحبه – سبحانه-، وكراهة ما يكره، وإيثار مرضاته على ما سواه، والسعي فيما يرضيه ما استطاع، وترك ما يكره، فهذه علامة المحبة الصادقة ولوازمها.

ومن هذا نعلم أن محبة الله تعالى ومحبة محمد رسوله - صلى الله عليه وسلم- أن يأتمر بأوامرهما، ويجتنب نواهيهما، ويقف عند حدودهما، ولا يقدم عليهما شيئاً، كل ذلك بنفس راضية مطمئنة راغبة، ويفهم منه أن من لم يطع الله تعالى بأمر من الأمور، أو ارتكب مخالفة من المخالفات الشرعية، فهذا لم يكتمل له حب الله تعالى، وأن من عصى محمد - صلى الله عليه وسلم- أو غالى فيه، وجعله إلها من دون الله، أو دعاه من دون الله، فهذا لم يحب محمداً -صلى الله عليه وسلم-، بل محبته الحقيقية طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يقدم عليه أحدا، فمن عصاه لم يحبه، ومن غالى فيه وأنزله بغير منزلته لم يحبه.

ومن هذا يتحصل أن الذين يتبركون بغيره -صلى الله عليه وسلم- ويتوسلون به من دون الله تعالى، وهم في الوقت نفسه يرتكبون كثيراً من المخالفات الشرعية فإنهم لم يحبوا محمداً -صلى الله عليه وسلم-، فكيف تعظّم شخصاً وأنت لا تطيع أمره؟!

وفوق هذا وذاك، لا بد أن تكون هذه المحبة أعلى من كل محبة، كما روى البخاري – رحمه الله – في صحيحه، عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (لأنت يا رسول الله، أحبُّ إلي من كل شيء؛  إلا نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (والذي نفسي بيده حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنك الآن والله أحبُّ إلي من نفسي، فقال: الآن يا عمر)(7).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: (وأكثر الناس يدعي أن الرسول أحب إليه مما ذكر، فلا بد من تصديق ذلك بالعمل والمتابعة له، وإلا فالمدعي كاذب، فإن القرآن الكريم بين أن المحبة التي في القلب تستلزم العمل الظاهر بحبها، كما قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)(8)، وقال تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين)(9)، ويقول - جل وعلا-: ( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون)(10)، ..)(11) اهـ.

وروى البخاري ومسلم عن أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)(12).

الوقفة الثالثة: الأسباب الجالبة لمحبة الله - عز وجل-، وهي عشرة أسباب ذكرها ابن القيم – رحمه الله – على النحو التالي:

1- قراءة القرآن بالتدبر لمعانيه وما أريد به.

2- التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض، كما في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبّه) رواه البخاري(13).

3- دوام ذكره على كل حال باللسان، والقلب، والعمل، والحال، فنصيبه من المحبة على قدر هذا.

4- إيثار محابه على محابّك عند غلبات الهوى.

5- مطالعة القلب لأسمائه، وصفاته، ومشاهدتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها.

6- مشاهدة بره، وإحسانه، ونعمه الظاهرة والباطنة.

7- وهو أعجبها: انكسار القلب بين يديه.

8- الخلوة به وقت النزول الإلهي آخر الليل، وتلاوة كتابه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.

9- مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك.

انتهى كلام ابن القيم - رحمه الله-(14).

ثم إن من علامات المحبة الصادقة لله تعالى: التزام طاعته، والجهاد في سبيله، والذلة على المؤمنين، والعزة على الكافرين، ذكر ذلك سبحانه وتعالى بقوله: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم)(15).

الوقفة الرابعة: قرن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين محبة الله – عز وجل – ومحبته، مما يدل على عظم محبته -صلى الله عليه وسلم- وعلو شأنها، وفي محبته -صلى الله عليه وسلم- عدة فوائد، هي:

الأولى: أن هذا مصداق ما ورد في السنة، كما رواه البخاري ومسلم عن أنس –رضي الله عنه – أنه قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين)(16).

وما ورد في الصحيح أيضاً أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: (لا يا عمر حتى أكون أحبّ إليك من نفسك)، فقال: والله لأنت أحبّ إليّ من نفسي، فقال: (الآن يا عمر)(17).

الثانية: لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- علامات، منها:

1- الحزن على فقد رؤيته -صلى الله عليه وسلم-، وتمني رؤيته والعمل لذلك، ذكر ابن جرير، عن سعيد ابن جبير، قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو محزون، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مالي أراك محزوناً؟) فقال: يا نبي الله شيء فكرت فيه، فقال: ( ما هو؟) قال: نحن نغدو ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدا تُرفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئاً، فأتاه جبريل بهذه الآية: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا)(18)، فبعث إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فبشره(19).

2- امتثال أوامره -صلى الله عليه وسلم- واجتناب نواهيه، فمن المعلوم أن المحبَّ لمن يحب مطيع، بل لا يقف عند أمره ونهيه فحسب، وإنما يلاحظ تعبيراته وإرشاداته فيفعل ما يريد، ويبتعد عما لا يريد، وهذه سمة الصحابة – رضي الله عنهم – مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث كانوا يمتثلون أمره ويقدرون هذه المحبة، روى الإمام البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنه قال: (كنت ساقي القوم يوم حُرّمت الحمر في بيت أبي طلحة، وما شرابهم إلا الفضيخ – وهو خليط البسر والتمر – فإذا منادٍ ينادي، فقال: اخرج فانظر، فإذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، قال: فجرت في سكك المدينة، فقال لي أبو طلحة: أخرج فأهرقها، فهرقتها)(20).

هذه هي المحبة الصادقة، امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ومن هذا نعلم عدم صحة دعوى من يدعي محبة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وهو يخالف أوامره، ويفعل بعض ما نهاه عنه، أو يبتدع في دينه ما ليس منه، أو ينزله منزلة فوق منزلته.

3- ومن علامات محبته -صلى الله عليه وسلم- نصر سنته والذبُّ عن شريعته بكل ما يملك، سواء بالنفس، أو بالمال، أو باللسان، أو بالقلم، أو بالجهد والتعب، وغير ذلك.

وقد ضرب صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة الصادقة في ذلك، فمن ذلك ما رواه ابن هشام أن أهل مكة أرادوا أن يخرجوا زيد بن الدثنة –رضي الله عنه – من الحرم كي يقتلوه فيجتمعون حوله، يقول له أبو سفيان: (أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟) قال زيد: (والله لا أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكةٌ تؤذيه وإني جالس في بيتي).

وبعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- اهتم الصحابة – رضي الله عنهم – بحفظ سنته -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا من بعدهم حتى دونت السنة وحفظت، ولا زالت جهود العلماء وطلبة العلم تقوم بهذا الأمر والحمد لله، فالذب عن سنته -صلى الله عليه وسلم- ونصرها من علامات محبته -صلى الله عليه وسلم-.

الثالثة: أن لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- فضلاً عظيماً، وثواباً جزيلا؛ ذلك أنها من علامات الإيمان الصادق، كما روى الشيخان في صحيحهما، عن أنس – رضي الله عنه – أنه قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)(21).

فالذي يحب النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون مؤمناً حقا.

كما أن محبته -صلى الله عليه وسلم- سبب لحصول حلاوة الإيمان، كما ورد في الحديث: (ثلاثٌ من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان...) وذكر منها: (أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما).

كما أن محبته -صلى الله عليه وسلم- سببٌ لمرافقته في الجنة، فقد ورد في الصحيحين أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: المرء يحبّ القوم ولمّا يلحق بهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (المرء مع من أحب)(22).

كما أن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، واتباع أوامره، واجتناب نواهيه، سبب  لمحبة الله _سبحانه وتعالى_ وغفران الذنوب، يقول الله _سبحانه وتعالى_: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)(23).

الرابعة: قال العلامة ابن رجب - رحمه الله-: (ومحبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على درجتين:

إحداهما فرض: وهي المحبة التي تقتضي قبول ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من عند الله، تلقيّه بالمحبة، والرضا، والتعظيم، والتسلم، وعدم طلب الهدى من غير طريقه بالكلية، ثم حسن الاتباع له فيما بلّغه عن ربه من تصديقه في كل ما أخبر به من الواجبات، والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات، ونصرة دينه، والجهاد لمن خالفه بحسب القدرة، فهذا القدر لا بد منه، ولا يتم الإيمان بدونه.

والدرجة الثانية: فضل، وهي المحبة التي تقتضي حسن التأسي به، وتحقيق الاقتداء بسننه في أخلاقه، وآدابه، ونوافله، وتطوعاته، وأكله، وشربه، ولباسه، وحسن معاشرته لأزواجه، وغير ذلك من آدابه الكاملة، وأخلاقه الطاهرة والراقية، والاعتناء بمعرفة سيرته، وأيامه، واهتزاز القلب عند ذكره، وكثرة الصلاة والسلام عليه؛ لما سكن في القلب من محبته، وتعظيمه، وتوقيره، ومحبة استماع كلامه، وإيثاره على كلام غيره من المخلوقين، ومن أعظم ذلك الاقتداء به في زهده في الدنيا الفانية، والاجتزاء باليسير منها، والرغبة في الآخرة الباقية) انتهى كلامه - رحمه الله-.

الوقفة الخامسة: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله..).

هذه هي الخصلة الثانية التي ينبغي للمسلم فعلها لأجل أن يجد حلاوة الإيمان، ويمكن أن نقف معها عدة وقفات:

الأولى: أن المراد بذلك أن تقوم العلاقة بين المسلم وأخيه المسلم على الحب في الله، بحيث لا تزيد مع البر ولا تنقص مع الجفاء.

الثانية: أن لهذه المحبة فضلاً عظيما، وثواباً جزيلاً، فقد روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة –رضي الله عنه – أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (سبعة يظلهم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله...)(24) وذكر منهم: (رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وافترقا عليه).

وقد ورد في الحديث الآخر فيما رواه الإمام مسلم، عن أبي هريرة –رضي الله عنه – أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلّي)(25).

من هذا نفهم أن المحبة بين المسلمين ينبغي أن تكون على طاعة الله تعالى، فتحب المسلم لإسلامه، وتبغضه لمعصيته، فتكون على حالة وسط، تحبه حال الطاعة وتبغض ما فيه من المعصية حال المعصية، ولا يظهر هذا البغض إلا إذا أظهر المعصية.

وروى الترمذي بسند صحيح عن معاذ – رضي الله عنه – أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (قال الله - عز وجل-: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء)(26).

وعن أبي إدريس الخولاني –رحمه الله- قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى برّاق الثنايا، وإذا الناس معه، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، فقيل: هذا معاذ بن جبل - رضي الله عنه-، فلما كان من الغد هجَّرت، فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي، فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه، ثم قلت: والله إني لأحبك لله، فقال: آلله؟، فقلت آلله، فقال: آلله، فقلت آلله، فأخذني بجبوة ردائي، فجذبني إليه، فقال: أبشر، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ)، رواه مالك في الموطأ وغيره، قال ابن عبد البر: إسناده صحيح(27).

الثالثة: من المستحسن إذا أحب المسلم أخا له في الله ومن أجل الله أن يخبره بذلك، فقد روى أبو داود والترمذي وغيرهما – بسند حسن – عن أبي كريمة المقداد بن معدي كرب –رضي الله عنه – عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)(28).

وروى أبو داود – بإسناد حسن أيضاً – عن أنس –رضي الله عنه – أن رجلاً كان عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمر رجل به فقال: يا رسول الله، إني لأحب هذا، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أأعلمته؟) قال: لا، قال: (أعلمه)، فلحقه، فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الذي أحببتني له(29).

الرابعة: أن من علامات الحب في الله والبغض في الله القيام بالحقوق والواجبات بين المتحابين، ومن أهمها:

1-      قضاء الحاجات والقيام بها، فخير الناس أنفعهم للناس.

2-   السكوت عن ذكر العيوب، فكما تحب ستر عيوبك فأحب لأخيك ما تحبه لنفسك، والاعتذار عما يصدر من الخطأ والزلات، يقول ابن المبارك - رحمه الله-: (المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات).

3-   عدم الغل، والحقد، والحسد، لما أنعم الله به على أخيك، فقد ورد في الحديث الصحيح: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يسلمه)(30).

4-   الدعاء للأخ في حياته، وبعد موته، بما تدعو لنفسك به، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (دعوة المسلم لأخيه في ظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل)(31).

5-   ومن ذلك: الوفاء والإخلاص، فثبت على محبته طوال حياته، وبعد موته، فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أكرم عجوزاً، وقال: (إنها كانت تغشانا في أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)(32)، فلا يتكبر على أخيه، وإن ارتفع شأنه، وماله، ووجاهته.

6-   ومن ذلك أيضاً: مبادرته بالسلام، والسؤال عن الأحوال والتفقد لها، كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ألا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم)(33).

 ويقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: (عليك بإخوان الصدق، تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء، وعدّة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يقيلك منه، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من يخشى الله، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرّك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى). اهـ كلامه - رضي الله عنه-.

الوقفة السادسة: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار...).

وفي هذه الجملة مسألتان مهمتان:

الأولى: ذكر العلماء أن المراد بهذه الجملة: أن من وجد حلاوة الإيمان، وعلم أن الكافر في النار يكره الكفر لكراهته دخول النار.

الثانية: أن من لازم هذه الجملة بغض الكفر وأهله، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة، فقد أوجب الله تعالى محبة الله تعالى ورسوله، وبغض الشرك وأهله، كما حرّم موالاتهم، ورتب عليها سخطه وعذابه، يقول الله – سبحانه-: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)(34)، ويقول سبحانه: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة)(35)، ويقول سبحانه: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم)(36).

فموالاة الكفار، والرضى بأعمالهم سبب لسخط الله - سبحانه وتعالى-، والبعد عن الإيمان، ومن صور الموالاة: محبتهم، ومداهنتهم، ومداراتهم، وتقريبهم، وتقديمهم على المسلمين، ومصاحبتهم وعشرتهم، والرضى بأعمالهم، واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين وغير ذلك.

 


 


(1) رواه البخاري، كتاب العلم، باب حلاوة الإيمان 1/30 ح16، ورواه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، ح43، 1/66.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي، 2/210.
(3) سورة إبراهيم، الآية: 24.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 1/60.
(5) تيسير العزيز الحميد ص476.
(6) ذكره الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ في: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ولم أجده فيما بين يدي من المصادر.
(7) أخرجه البخاري في كتاب
(8) سورة آل عمران الآية:
(9) سورة النور، الآية: 47.
(10) سورة النور: الآية: 51.
(11) نقلاً من كتاب: تيسير العزيز الحميد ص 473، 474، سليمان بن عبد الله.
(12) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب حب الرسول من الإيمان 1/55، ورواه مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب محبة الرسول أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين.
(13) رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب التواضع 4/2039، ح 6502.
(14) نقلاً من كتاب: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص292، 293، عبد الرحمن آل الشيخ.
(15) سورة المائدة، الآية: 54.
(16) تقدم تخريجه.
(17) تقدم تخريجه.
(18) سورة النساء، الآية: 69.
(19) ذكره ابن كثير في تفسير الآية في سورة النساء، وقال: (وقد رُوي هذا الأثر مرسلا عن مسروق، وعن عكرمة، وعامر الشعبي، وقتادة، وعن الربيع بن أنس، وهو من أحسنها سنداً). 1/523.
(20) أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب صب الخمر في الطريق 2/738 ح 2464.
(21) تقدم تخريجه.
(22) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب علامة الحب في الله 4/1943، ح 6169، ومسلم في كتاب البر والصلة، باب المرء مع من أحب، ح 2640، 4/2034.
(23)
سورة آل عمران، الآية: 31.
(24) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد 1/209 ح 660، ورواه مسلم في كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة 1031، 2/715.
(25) رواه مسلم في كتاب البر والصلة، باب فضل الحب في الله، 16/96، 2566، 4/1988.
(26) رواه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في الحب في الله 4/24، ح 2499، ورواه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الشعر، باب ما جاء في المتحابين في الله 2/725، ح13.
(27) رواه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الشعر، باب ما جاء في المتحابين في الله 2/725 ح16.
(28) رواه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في إعلام الحب 4/25، ح 2502، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، ورواه أبو داود في كتاب الأدب، باب إخبار الرجل بمحبته إياه، 5/343، ح5124.
(29) رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب إخبار الرجل بمحبته إياه 5/344، ح 5125، وفي إسناده المبارك بن فضالة القرشي العجلي، ضعّفه الإمام أحمد ويحيى بن معين والنسائي، وتكلم فيه غيرهم.
(30) رواه البخاري في كتاب المظالم باب: لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يسلمه 2/732، ح 2442، ورواه مسلم في كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، ح 2580، 4/1996.
(31) رواه الإمام مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، ح 2733، 4/2094.
(32) رواه الحاكم في المستدرك وحسّنه الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/413.
(33) رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان باب بيان أنه لا يدخل الجنة  إلا المؤمنون، ح 54، 1/74.
(34) سورة المائدة، الآية: 51.
(35) سورة آل عمران، الآية: 28.
(36) سورة المجادلة، الآية: 22.

 

 

 

 

 

 

 

 



بحث عن بحث