شبهة عرض السنة على العقل والرد عليها(13)

 

المحور السابع في الرد على هذه الشبهة:

وأخيرًا هل أهمل المتحدثون - حقًا - العقل في قبولهم للحديث وتصحيحه كما زعم أعداء السنة النبوية المطهرة؟

هذا السؤال أجاب عنه الشيخ عبد الرحمن المعلمي - رحمه الله تعالى - في كتابه الأنوار الكاشفة بقوله: " كلا، راعوا ذلك في أربعة مواطن:

 أولاً: عند السماع.

 ثانيًا: عند التحديث.

 ثالثًا: عند الحكم على الرواة.

 رابعًا: عند الحكم على الحديث.

أولاً: أما مراعاة المحدثين للعقل في قبول الحديث ورده عند السماع: فيبدو ذلك واضحًا في اعتمادهم صحة سماع الصبي متى كان مميزًا فاهمًا للخطاب ورد الجواب، سواء كان ابن خمس، أو أقل، وروى ذلك بعد بلوغه الحلم، ومتى لم يتمكن العقل من فهم الخطاب، ورد الجواب لم يصح سماعه حتى قال ابن الصلاح : وإن كان ابن خمسين سنة(1) .

ويقول المعلمي في شرح ذلك "فالمثبتون إذا سمعوا خبرًا تمتنع صحته أو تبعد، لم يكتبوه ولم يحفظوه، فإذا حفظوه لم يحدثوا به، فإن ظهرت مصلحة لذكرة، ذكروه مع القدح فيه وفي الرواي الذي عليه تبعته(2) .

ويقول الأستاذ أبو غدة - رحمه الله تعالى - : المراد بمراعاة العقل عند السماع، فحص التلميذ الواعي وانتباهه لحال الشيخ الرواي، الذي يريد أن يتلقى عنه، قبل سماعه منه، فإذا وجد سيئ الحفظ، أو مضطربًا في الحديث أو شديد التدليس عند التحديث، أو يروى الواهيات، أو المنكرات، أو يسوق الموضوعات والخرافات، أو يقلب الأسانيد أو المتون، أو صاحب بدعة تتصل بحديثه، أو لا تتصل: أعرض عن التحمل عنه، والسماع منه. وكانوا يوغلون، ويدققون جدًا في البحث عن الشيخ والكشف عن حاله قبل الأخذ عنه، حتى يقال لهم: أتريدون أن تزوجوه؟

روى الخطيب في الكفاية بسنده إلى: "شاذان الأسود بن عامر -  قال: سمعت الحسن بن صالح يقول: كنا إذا أردنا أن نكتب عن الرجل سألنا عنه حتى يقال لنا: أتريدون أن تزوجوه؟ "(3)

وكثير من طلبة الحديث كانوا لا يكتبون عن أحد حتى يسألوا عنه أئمة الشأن الذين يعرفون الرواة، ومن يجوز أن يكتب عنه، ومن لا يحل كتب حديثه للاحتجاج أو الاعتبار، فعن أبى العباس بن باذام قال: قال لي الوليد بن مسلم القرشي: وكنت إذا أردت أن آتي الشيخ أسمع منه شيئًا، سألت عنه قبل أن آتيه الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، فإذا رأيا أن آتيه أتيته"(4)ونحو ذلك كثير منتشر في أخبار الراوة والمحدثين.

وكثيرًا ما كان بعض الطلبة يمتحنون الشيوخ قبل التلقى عنهم، فيقلبون لهم بعض الأسانيد في بعض الأحاديث، ويركبون عليها المتون، ويسألهم عنها على أنها من أحاديثهم وروايتهم، يفعلون هذا عمدًا: امتحانًا للشيخ قبل السماع منه، فإن انتبه عرفوا ضبطه ومتانة حفظه وشدة يقظته ودقة وعيه، وأخذوا عنه، وإن تلقن وأقر: الحديث المقلوب والمغلوط تركوا الرواية عنه.

ومن نماذج مراعاتهم للعقل في قبول الحديث ورده عند السماع:

1_ ما رواه الدارقطني في سننه عن سفيان بن عيينة قال: دخلت على الحجاج بن أرطاة ، وسمعت كلامه، فذكر شيئًا أنكرته، فلم أحمل عنه شيئًا.

وقال يحيى بن سعيد القطان: رأيت الحجاج بن أرطاة بمكة، فلم أحمل عنه شيئًا "(5)

2_ وروي الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن عبد الله المبارك ، قال: لو خيرت بين أن أدخل الجنة وبين أن ألقى عبد الله محرر الجزري الرمي  قاضى الرقة - لاخترت أن ألقاه، ثم أدخل الجنة، فلما رأيته كانت بعرة أحب إلى منه"(6)


 


(1) علوم الحديث ص97 .

(2) الأنوار الكاشفة ص 6 .

(3) الكفاية ص93 .

(4) تهذيب الكمال 3 / 1475 .

(5) سنن الدارقطني ، كتاب الحدود والديات رقم 266

(6) مسلم بشرح النووي ، المقدمة ، باب بيان أن الإسناد من الدين 1 / 131 ، وانظر : لمحات من تاريخ السنة ص 172 ــ 174 .



بحث عن بحث