القاعدة الثانية : وضوح الرؤية والهدف (7-7)

 

 

 

 

 

ركائز الداعية في تحقيق أهداف الدعوة- المعلم الثالث:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،،،،،

ففي هذه الحلقة نبين: ركائز الداعية في تحقيق أهداف الدعوة- المعلم الثالث:

3- المعلم الثالث: الحكمة والموعظة الحسنة:

وهذا هو المعلم الثالث لركائز الدعوة ولرسم الهدف الصحيح، قال تعالى: ) ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل: 125]، وقال جل شأنه: ( وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ) [البقرة : 83].

وروى الإمام البخاري عن علي بن أبي طالب ط: «حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله»(1)

إن الحكمة في الدعوة والموعظة الحسنة للمدعوين هما الركيزة الثالثة من ركائز الدعوة.

والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، والحكمة ضالة المؤمن ينشدها في كل مجال، ويبحث عنها بكل الوسائل، ذلك لأن الحكمة تقتضي أن يكون الداعية مدركًا لما حوله مقدرًا للظروف التي يدعو فيها، مراعيًا لحاجات الناس ومشاعرهم، حتى يتمكن من الوصول إلى قلوبهم، وتلك هي الخطوة الأولى في بلوغ الدعوة أهدافها.

والحكمة تجعل الداعي إلى الله يقدر الأمور قدرها، فلا يزهد في الدنيا والناس في حاجة إلى النشاط والجد والعمل، ولا يدعوا إلى التبتل والانقطاع والمسلمون في حاجة إلى العلم بالعقيدة والشريعة، والعلم بأحكام البيع والشراء، وكذا والناس في مسيس الحاجة لتعلم الوضوء والصلاة.

فيعالجها بحسب ما يقتضيه الحال، وبذلك ينفذ إلى قلوب الناس من أوسع الأبواب، وتنشرح له صدورهم، ويرون فيه المنقذ الحريص على سعادتهم وأمنهم واطمئنانهم.

والموعظة الحسنة هي الكلمة الطيبة تخرج من فم الداعية لتصل إلى عقول الناس فيجدون فيها الخير والسعادة، ويحسون من خلالها صدقه، وحرصه على جلب الخير لهم ودفع الضر عنهم، وقد مثل لها القرآن الكريم بقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء  ( 24 ) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ )[إبراهيم : 24 -25].

الموعظة الحسنة هي التي تحمل للناس البشرى، وتأخذ بأيديهم إلى طريق الحق والصواب، هي مع ذلك لا تسيء إلى أحد أيًا كان، ولا تعنف أحدًا مهما كان، يلقيها الداعية يقصد بها وجه الله فتستل الضغائن من النفوس، وتنزع السخائم من القلوب، فيصفوا الناس بعضهم لبعض، ويلتـئم الشمل، وتأتلف القلوب، ويصبح الجميع أخوة متحابين.

والموعظة الحسنة هي الكلمة الندية الرقيقة التي تلمس القلوب فترق بها، وتخالط النفوس فتستهل لها وتفرح بها، وهي البلسم الشافي يداوي الجراح، ويخفف الآلام، ويشفي النفوس.

والقرآن الكريم قد عرض لنا نماذج من الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في صورة مشرقة رائعة يأخذ منها الدعاة ما يفيدهم، وهي وان اختلفت في البيئات وتباينت العوامل إلا أنها على كل حال تعطي التصور العام الذي ينبغي أن يسلكه الدعاة، ويضعوا على أساسه خططهم ومنهاجهم.

من هذه النماذج خليل الله إبراهيم عليه السلام لم يعامل الذي حاجّه بالمثل بل حاجه بالحسنى، وجادله بالتي هي أحسن.

وطلب النمرود من إبراهيم عليه السلام أن يقدم له دليلًا على وجود الله عز وجل فأجابه إبراهيم (  رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ )فقال النمرود في تجبر وعناد: ( أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ) [البقرة: 258].

وأدرك إبراهيم عليه السلام أن العناد قد استولى على عقل خصمه، وأن اللجاج قد سيطر على نفسه، فسلم له، وأرخى العنان ليتمكن من إفحامه بما لا يستطيع رده ليبطل بذلك ما أدعاه أولا بعجزه في الثاني، قال إبراهيم عليه السلام: ( فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) وهنا أخرس ذلك الخصم العنيد فلم يحر جوابًا، وسكت وكأنه لا يعرف الكلام:  ) فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ )وهنا تلاحظ أن إبراهيم عليه السلام لم يغضب لعناد خصمه المتغطرس، ولم يلجأ إلى كلام فاحش أو لفظ بذيء، أو لم يتناول غير الموضوع الذي يريده، وتلك هي عين الحكمة والموعظة الحسنة.

إن خليل الله إبراهيم عليه السلام لو لجأ إلى غير ذلك لكان معذورًا فالخصم لدود، وخصومته شرسة، وعناده ولجاجه يستوجب السخرية والتهكم، ولكن إبراهيم عليه السلام ترفع عن ذلك، وعامله بما يجب أن يعامل به الدعاة المدعوين، فترفق به ولان ليستميل قلبه العاتي ويزلل نفسه الشرود.

وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أمر بقوله تعالى: ( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة ِ) [النحل: 125] يتخذ من الحكمة والموعظة الحسنة أسلوبًا يغزو به القلوب ويلين به النفوس.

فهذا عتبة بن ربيعة عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء حتى إذا فرغ منها ما ناقشاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جادله فيها، ولكن قال له: (أفرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم، قال: اسمع مني) فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (  حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) [فصلت : 1-3] ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها فلما سمع بها عتبة أنصت لها وألقى بيديه خلفه أو خلف ظهره معتمدًا عليها ليسمع منه(2) ، حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام عتبة وقد تغيرت معالم وجدانه وتقاسيم وجهه وقال فيه قومه لما رأوه من بعيد: «نحلف بالله، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به».. نعم، لقد جاءهم بوجه رق للإسلام وقال لهم صراحة: «والله لقد سمعت قولًا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خلو بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كيفتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به»(3)

إن الكلمة الطيبة تبقى قاعدة وأسلوبًا في تبليغ الدعوة ترد بنبرتها الهادئة ونسمتها الحانية غاضبًا مفلوت الزمام.. فإن لم ترده هذه الكلمة الطيبة فقد بقي للدعوة أنها كانت ولا تزال تحب له الخير غير أنه هو الذي لا يريد لنفسه ذلك.

والخلاصة: أن من أهم ركائز الدعوة وصياغة الأهداف أن تبنى على وسائل سليمة قاعدتها: الحكمة بمفهومها الشامل، الذي سبق إيضاحه، والموعظة في أعلا درجاتها وهي: «الحسنة».

 

النتائج المترتبة على العمل بهذه القاعدة:

لاشك أن من أهم عناصر نجاح الدعوة والداعية تحديد الهدف ووضوح الرؤية، ولذلك آثار إيجابية، منها:

1- تحقق الاقتداء بإمام الدعاة عليه الصلاة والسلام فلم تكن حركته الدعوية عشوائية أو بغير هدف واضح - كما سبق بيانه - فالداعية الذي يصوغ هدفه بوضوح يتحقق له الاقتداء.

2- معرفة ما يريد الداعية الوصول إليه فيكون ذلك دافعًا قويًا وحافزًا عظيمًا لمواصلة المسير.

3- يدرك الداعية بهذا الهدف طول الطريق وقصره، وماذا يريد من الوسائل، وما الأساليب التي يريد استخدامها؟

4- بصياغة الهدف والعمل له يستطيع الداعية القياس لمدى صحة مسيره، والتقويم الصحيح لسلامة خطواته.

5- عظم الأجر والمثوبة، فالأجر يعظم بعظم العمل، والعمل يعظم بعظم الهدف الذي يريد الداعية تحقيقه.

إن واحدة من تلك الآثار كافية لئن يسارع الداعية لصياغة هدفه والعمل له، فكيف وهو أساس العمل الدعوي؟

الآثار السلبية لعدم صياغة الأهداف أو عدم وضوحها كثيرة، منها:

1- التخبط في الأعمال الدعوية وعدم الثبات على هذه الدعوة فهذا الداعية لا يدرك إلى أين هو ذاهب.

2- طول الطريق وعدم سلامته.

3- كثرة العقبات المؤدية إلى التساقط أو ضعف المسير.

4- الملل والفتور إذ لا يدري هذا الداعية ماذا يريد أن يحقق؟

5- قد يفسد أكثر مما يصلح كما قال عمر بن عبد العزيز :: «من عمل في غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح»(4)

ونخلص إلى ما بدأنا به: أن على الداعية أن يحدد هدفه ويجتهد في ذلك ليكون سيره صحيحًا، وعمله سليمًا، وثمرته واضحة.

وسنبدأ في الحلقة التالية بإذن الله تعالى ببيان: القاعدة الثالثة: الغايات والوسائل.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


(1) أخرجه البخاري: (1/44رقم...)، كتاب العلم، باب من خص بالعلم دون قوم كراهية أن لا يفهموا.

(2) السيرة لابن كثير: (1/504).

(3) السيرة النبوية لابن كثير: (1/505)، والسيرة لابن هشام: (1/294).

(4) جامع بيان العلم لابن عبد البر: (1/27).

 



بحث عن بحث