رعاية النساء في ضوء سورة النساء  (11 - 15)

 

المطلب السادس/ النهي عن عضل المرأة، ورعاية الأرامل من النساء:

لقد عانت المرأة التي يتوفى عنها زوجها في الجاهلية أنواعاً من الامتهان في هذه الحالة، فكان أولياء الرجل المتوفي هم أحق بامرأته يرثونها كما يرثون المال والأنعام.

فإن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها وأخذوا مهرها، وإن شاءوا عضلوها، وأمسكوها في البيت دون تزويج حتى تفتدي نفسها بشيء، وكذلك كانت المرأة تعضل قبل وفاة زوجها من زوجها فيؤذيها حتى تفتدي نفسها لتتخلص من ظلمه.

وهذه الأمور كلها مما لا تتفق مع تكريم الإسلام للمرأة ورعايته لها كما هو معلوم.  وقد نهت هذه السورة عن هذه الصور الشنيعة من العضل، ورعت حق المرأة عامة سواء كانت زوجة، أو امرأة.

فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}(1).

قال القرطبي: ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً) هذا متصل بما تقدم ذكره من الزوجات، والمقصود: نفي الظلم عنهن، وإضرارهن، والخطاب للأولياء أي: لا يحل لكم وراثة النساء كرهاً.. والمقصود من الآية: إذهاب ماكانوا عليه في جاهليتهم، وألا تجعل النساء كالمال يورثن من الرجال كما يورث المال)(2).

وكذا ذكر الطبري أنه كان الرجل إذا مات وله عصبة ألقى أحدهم ثوبه على امرأته وقال: أنا أحق بها، ثم إن شاء تزوجها بصداقها الأول، وإن شاء زوجها غيره، وأخذ صداقها، وإن شاء عضلها لتفتدي بما ورثت من زوجها.

وقيل: لا يحل لكم أن تأخذوهن على سبيل الإرث، فتتزوجهن كارهات لذلك، أو مكروهات عليه(3).

وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها وهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك(4).

ونهى الله عز وجل في الآية كذلك عن عضل الزوج لزوجته، فقال تعالى:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} فقد كان الرجل إذا تزوج امرأةً، ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العشرة، والقهر، والتضييق عليها لتفتدي منه بمالها وتختلع، أو إذا رأى امرأة فأعجبته بهت التي تحته ورماها بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه.

{ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } أي: من الصداق بأن يدفعن إليكم بعضه اضطرارً، فتأخذوه منهن، وإنما لم يتعرض لفعلهن إيذاناً بكونه بمنزلة العدم لصدوره عنهن اضطراراً، وإنما عبر عن ذلك بالذهاب به، لا بأخذ، ولا بالإذهاب للمبالغة في تقبيحه ببيان تضمنه لأمرين كل منهما يعد به، محظور شنيع: الأخذ، والإذهاب منهن؛ لأنه عبارة من الذهاب مستصحباً به.

{ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي: ولا يحل لكم عضلهن في حالٍ من الأحوال، أو في وقتٍ من الأوقات، أو لعلةٍ من العلل إلا في حالِ إتيانهن بفاحشةٍ، أو إلا في وقت إتيانهن، أو لإتيانهن بها.

ويؤكد سبحانه وتعالى كذلك في الآية في خضم هذا الحديث قضية المعاشرة بالمعروف فيقول عز من قائل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وهذا خطاب للذين يسيئون العشرة مع النساء، والمراد ههنا في المبيت والنفقة والإجمال في المقال ونحو ذلك.

وليس الأمر إلى هذا الحد من التكريم والإنصاف، بل ما يزال الله يوصي بالنساء في الآية حتى في حال الكراهية، وسآمة الصحبة فيقول سبحانه: { فَعَسَى? أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } أي: لعل لكم فيما تكرهونه خيراً كثيراً ليس فيما تحبونه.

فالله ينهى أن يفارق الرجل الزوجة لمجرد كراهة النفس، فربما كرهت النفس ما هو أصلح لها في الدين وأولى إلى الخير، وأحبت ما هو بضد ذلك(5).

ثم قال تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ..}(6)، فإذا كان لا بد من الفراق، وليس للإمساك محلٌ، فليس  الإمساك بلازمً، بل متى { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ ..} أي: تطليق الزوجة، وتزوج أخرى، أي: فلا جناح عليكم في ذلك ولا حرج، ولكن إذا {آتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } فإن هذا لا يحل، ولو تحيلتم عليه بأنواع الحيل؛ فإنه إثمٌ واضحٌ.

وقد بّين الله حكمة ذلك بقوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى? بَعْضُكُمْ إِلَى? بَعْضٍ}(7)، فهذا من أعظم الظلم والجور(8).

وهذا يدل على مدى الرعاية لمشاعر المرأة، وعدم امتهانها، وظلمها.


 


(1) سورة النساء: 19.

(2) تفسير القرطبي: 5/94.

(3) تفسير الطبري: 3/207-209.

(4) أخرجه البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، باب: (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً): 8/245.

(5) تفسير أبي السعود 2/157-158، تفسير النسفي: 218.

(6) سورة النساء: 20.

(7) سورة النساء: 21.

(8) تفسير السعدي: 181.



بحث عن بحث