البــــر في بيت النبـــــوة

 

اشتهرت فاطمة رضي الله عنها بشدة حيائها، والحياء لا يأتي إلا بخير، ولها في ذلك قصص ومواقف مشهورة، وكانت أكثر ما تكون حياء واحتراماً ومهابة من أبيها عليه الصلاة والسلام، عن أسماء بنت عميس قال كنت في زفاف فاطمة بنت رسول الله، فلما أصبحنا جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الباب، فقال: (يا أم أيمن ادعي لي أخي)، فقالت: هو أخوك وتنكحه؟ قال: (نعم يا أم أيمن)، قالت: فجاء علي فنضح النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الماء ودعا له، ثم قال: (ادعو إلي فاطمة)، قالت: فجاءت تعثر من الحياء، فقال لها رسول الله: (استكني فقد أنكحتك أحب أهل بيتي إلي) قالت: ونضح النبي صلى الله عليه وسلم عليها من الماء ودعا لها، قالت: ثم رجع رسول الله فرأى سواداً بين يديه، فقال: (من هذا؟) فقلت: أنا، قال: (أسماء؟)، قلت: نعم. قال: (أسماء بنت عميس؟)، قلت: نعم، قال: (جئت في زفاف بنت رسول الله تكرمة له؟)، قلت: نعم. قالت: فدعا لي(1). وكان زواجها بعلي رضي الله عنهما في ذي القعدة أو قبيله، من سنة اثنتين بعد وقعة بدر، وهي يومئذ ابنة خمس عشرة سنة(2).

وما كانت رضي الله عنها تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً حياءً منه، فعن أسماء بنت عميس عن فاطمة بنت محمد عليهما السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاها يوماً، فقال: (أين ابني؟) - يعني حسناً وحسيناً- قالت قلت: أصبحنا وليس في بيتنا شيء يذوقه ذائق، فقال علي أذهب بهما، فإني أتخوف أن يبكيا عليك وليس عندك شيء. فذهب بهما إلى فلان اليهودي.

وتوجه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهما يلعبان في مشربة بين أيديهما فضل من تمر، فقال: (يا علي ألا تقلب ابني قبل أن يشتد الحر عليهما؟)، قال فقال علي: أصبحنا وليس في بيتنا شيء، فلو جلست يا رسول ا لله حتى أجمع لفاطمة تمرات. فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ينزع لليهودي كل دلو بتمرة ! حتى اجتمع له شي من تمر فجعله في حجزته، ثم أقبل فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما وحمل علي الآخر حتى أقلبهما(3).

وكانت رضي الله عنها تعمل بيديها، وتقوم بسائر شؤون بيتها، يصف حالها زوجها علي رضي الله عنه، فيقول: كانت فاطمة ابنة رسول الله أحب أهله إليه، وكانت عندي –يعني زوجتي- فجرت بالرحا حتى أثّرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وقمّت البيت حتى أغبرت ثيابها، وأصابها من ذلك ضرر، فسمعنا أن رقيقاً أتي بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: لو أتيت أباك فسألتيه خادماً يكفيك. فأتته فاستحت فرجعت، فغدا علينا ونحن في لفاعنا، فجلس عند رأسها، فأدخلت رأسها في اللفاع حياء من أبيها، فقال: (ما كان حاجتك إلى آل محمد؟) فسكتت مرتين، فقلت: أنا والله أحدثك يا رسول الله، إن هذه جرت عندي بالرحا حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وقمّت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت القدر حتى دكنت ثيابها، وبلغنا أنه أتاك رقيق وخدم، فقلت لها سليه خادماً. فقال: (ألا أدلكما على خير مما سألتما ؛ إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا الله أربعاً وثلاثين واحمدا الله ثلاثاً وثلاثين وسبحا الله ثلاثاً وثلاثين فإن ذلك خير لكما مما سألتماه)(4).

ولا شك أن كثرت السؤال والطلب والشكوى يشق بالوالدين ويغمهما، لا سيما مع قلة ذات اليد وضعف الحيلة.

والولد البـــار يبتعد عن كل ما يشق والديه

وليكن كلنا ذلك الولـد

 

 


(1)   انظر فضائل الصحابة رقم 1342-2/762.
(2)   انظر سير أعلام النبلاء 2/119و128.
(3)   انظر: الذرية الطاهرة 1/104.
(4)   انظر: ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى 1/50،51، والذرية الطاهرة 1/104، والحديث مخرج بنحوه في الصحيح أخرجه البخاري في عدة مواضع ك النفقات باب عمل المرأة في بيتها ح5361- فتح9/506، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح 9/506:[ ويستفاد من قوله (ألا أدلكما على خير مما سألتماه) أن الذي يلازم ذكر الله يعطى قوة أعظم من القوة التي يعملها له الخادم، أو تسهل الأمور عليه بحيث يكون تعاطيه أموره أسهل من تعاطي الخادم له، هكذا استنبطه بعضهم من الحديث، والذي يظهر أن المراد نفع التسبيح مختص بالدار الآخرة ونفع الخادم مختص بالدار الدنيا، والآخرة خير وأبقى ] ولا أرى ما يمنع شموله كلا المعنيين، والأول مجرب ونافع في موضعه والله أعلم.



بحث عن بحث