حديثي  (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) و (إِنَّكُنَّ لأنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ)

 

 

 عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: مَرِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ فَقَالَ : «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ » قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ.

قَالَ: « مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ » .

فَعَادَتْ فَقَالَ : «مُرِي أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ » فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  . (1) 

عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  قَالَ فِي مَرَضِهِ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ ».

قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ باِلنَّاسِ. فَقَالَ: « مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ». فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُولِي إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاء فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  : « إِنَّكُنَّ لأنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ باِلنَّاسِ ».

فَقَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ: مَا كُنْتُ لِأُصِيبَ مِنْكِ خَيْرًا . (2)

مِنْ فَوَائِد الحديثِ:

1/ ذكر طرفٍ من فضائل أبي بكر الصديق ومناقبه، فقد كان - رضي الله عنه - رقيق القلب كثير الخشية، سريع الدمعة  كما قالت عائشة - رضي الله عنها -: « إنَّ أبا بكرٍ رجلٌ رقيقٌ إِذا قَرأ القُرآنَ لا يملكُ دَمْعِهُ » .

يعني كان - رضي الله عنه - سريعَ الحزن حاضرَ البُكاء، وافر الرحمة، غزير العاطفة ، عظيم المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم  فإذا خلفه في الصلاة لم يتحمَّل فراقه (3) .

2/ قال القاضي عياض – رحمه الله -: إرسال النبي صلى الله عليه وسلم   إلى أبي بكر - رضي الله عنه - للصلاة، واستخلافه لها وحده، دون سواه حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، أجمل دليل على فضيلة أبي بكر، وتفرده بهذه المنقبة، وتقدُّمه على أصحابه  ا.ه(4). وترجيحه في الإمامة على القراء منهم لكمال أهليّته، وأنه أسبقهم إلى كل خيرٍ، وأفضلهم علمًا وفقهًا، قال أبو سعيد: «وكان أبو بكر أَعْلَمَنَا ».

وهو - رضي الله عنه - أولهم إسلامًا وأسبقهم هجرة ونصرة، وأعظمهم بذلاً، وأثرًا في الإسلام، وصبرًا على الأذى فيه (5).

ولهذا ترجم البخاري – رحمه الله -: باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة.

3/ امتنع النبي صلى الله عليه وسلم  عن التصريح بخلافة أبي بكر لأنه كان لا ينطق في دين الله بهواه، بل بما يُوحَى إليه من ربِّه، ولم يوحَ إليه فيها شيء، وكان لا يتقدَّم بين يدي ربِّه – سبحانه - رغم محبته أن يكون أبو بكر خليفته، فأرى أصحابه موضع اختياره بتقديمه في الصلاة بالناس وكرر هذا الأمر مع حضور عمر وعثمان وعلي وعامّة أصحابه - رضي الله عنهم - وجميع أمور الإسلام تبع للصلاة، فاختاره الله خليفة للمسلمين وقال الصحابة: (رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله لديننا ) وهو أفضل الأمة بعد نبيِّها صلى الله عليه وسلم  ، وأولى البريَّة بعقد الخلافة وأقومهم على الحق، وأعدلهم وأقربهم أمانة وأحسنهم على محجة الحقِّ استقامة (6) .

4/ في قول عائشة - رضي الله عنها -: إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، وتمكين النبي صلى الله عليه وسلم  أبا بكر من الإمامة والتأكيد عليه بها، مع العلم بحاله وعدم الإنكار عليه دليل على جواز البكاء في الصلاة لمن غلبه إن كان من خوف الله أو على مصيبة في الدين، وهذا الصحيح، الذي عليه الجمهور (7) قال تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّا(8)

وترجم البخاري لهذا الحديث: باب إذا بكى الإمام في الصلاة.

5/ معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم  : ( إِنَّكُنّ لأَنتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ ).

قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام - رحمه الله - وجه التشبيه بهنّ وجود المكر في القصّتين، هو مخالفة الظاهر لما في الباطن.

فصواحب يوسف – عليه الصلاة والسلام - أتين (زليخا) ليعاتبنها، ومقصودهن أن يدعون يوسف - عليه الصلاة السلام - لأنفسهن، وعائشة – رضي الله عنها - كان مرادها أن لا يتطيَّر الناس بأبيها لوقوفه مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم  .

لكن تعقَّبه ابن حجر - رحمه الله - بأن سياق الآية ليس فيه ما يساعده وقال – بإيضاحٍ أدق -: وجه الشبه في إظهار خلاف ما في الباطن – كما تقدم – هو أن (زليخا) استدعت النسوة وأظهرت لهنّ كرم الضيافة، ومرادها زيادة على ذلك أن ينظرن إلى جمال يوسف، ويعذرنها في محبته ، وأن عائشة – رضي الله عنها - أظهرت سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه  كما في قولها: (لم يُسمع الناس من البكاء )، ومرادها زيادة على ذلك أن لا يتشاءم الناس به. وقد صرّحت بذلك فيما بعد .. فقالت: (وَاللهِ ، ما بي إِلاّ كَرَاهِيَةُ أَنْ يَتَشَاءمَ النَّاسُ بِأَوّلِ مَنْ يَقُوَمُ في مَقَامِ رَسُولِ اللهِ  ).

قال القرطبي وابن تيمية - رحمهما ا لله -: وجه الشبه هو تظاهر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم  الحاضرات على الإلحاح والإصرار حتى يصرفن النبي صلى الله عليه وسلم  عن اختيار أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ليقدِّم غيره، وهذا كتظاهر امرأة العزيز ونسائها على يوسف عليه الصلاة والسلام ليصرفنه عن رأيـه في الاستعصام، فذمّ النبي نساءه كما ذم أولئك النسوة على مراودة يوسف - عليه السلام - وهو متوجّه (9) .

6/ وقول حفصة لعائشة - رضي الله عنهما -: (ما كُنْتُ لأُصِيْبَ منكِ خَيْرًا ).

خرج منها مخرج الغضب عليها، لأنها عرَّضَتْها لما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، حينما راجعته في الثالثة، فلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، ما لا يسرُّها من إنكاره عليها، وانتهارها، وتشبيههن بصواحب يوسف - عليه السلام - فوجدت في نفسها، فرجعت تلوم عائشة – رضي الله عنها - إذ كانت سبب ذلك، والمكروب ربما قال قولاً يحمله الحرج عليه، ومعلوم أن حفصة لم تعدم من عائشة خيرًا.

وهذا كله موجود في طباع بني آدم وإن كان ذلك في أولئك من السلف الصالح ، فغيرهم أحرى بأن يسامح ويعذر في مثله(10) .

7/ قال الكرماني والنووي – رحمهما الله -: في مراجعة عائشة - رضي الله عنها - جواز مراجعة ولي الأمر على سبيل العرض والمشاورة، والإشارة بما يظهر أنه مصلحة، وتكون تلك المراجعة بعبارة لطيفة، ا . هـ (11)

لكن يكره الإلحاح فيها لأن النبي صلى الله عليه وسلم  أنكر هذه المراجعة، ولم يرضها ، وعاتَب أزواجه عليها بشدَّة حتى لُمن أنفسهن ولهذا – والله أعلم - .

ترجم البخاري لهذا الحديث: باب ما يكره من التعمّق والتنازع في العلم . والحكم يختلف بما يقتضيه الحال والمقام.

8/ وفيه جواز المرض على الأنبياء، ومن الحكمة فيه  تعظيم بلائهم لتكثير أجرهم ومضاعفة الحسنات وتَسليةُ النَّاس بهم ، ولئلا يَفْتَتِنَ النَّاسُ بهم فيعبدوهم(12) .

9/ وفيه جواز التخلّف للإمام وغيره عن صلاة الجماعة لضرورة كعذر المرض ونحوه، واستخلاف أفضلهم ليؤم الناس في الصَّلاة، (13) وترجم النووي لهذا الحديث.

باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما مَنْ يصلي بالناس.

10/ وفيه فضيلة لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، لمراجعة أمهات المؤمنين النبيَّ صلى الله عليه وسلم  وتأكيدهنّ على اختياره لإمامة الناس في الصلاة، وهذا يدلُّ على ما استقرَّ لديهن من وفور فضله وجلالة قدره بعد أبي بكر - رضي الله عنه -.

 


(1) متفقٌ عليه ،رواه البخاريُّ (54ح 678) ومسلمٌ (745ح 420).

(2) متفق عليه ، رواه البخاريُّ (54ح 679) و (57ح 716) وزاد : « إِنَّ أبا بكرٍ رَجُلٌ أَسِيْفٌ ».ورواه مسلم (744 ح 418) بسنده عن عائشة قالت: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم  بيتي قال: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ »  قَالَتْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا بِي إِلاَّ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَشَاءَمَ النَّاسُ بِأَوَّلِ مَنْ يَقُومُ فِي مَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: فَرَاجَعْتُهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَقَالَ: «لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ ».

(3) شرح ابن بطال (2/290)، إكمال المعلم (2/320) المفهم (2/806)، المنهاج (4/358)، شرح الكرماني (5/50)، الفتح (2/194)، عمدة القاري (5/189)، إرشاد الساري (2/308) شرح الزرقاني (1/493)، تحفة الأحوذي (10/107).

(4) إكمال المعلم (2/319)، وينظر: الفتح (2/198).

(5) شرح ابن بطال (2/299)، التمهيد (22/131)، المنهاج (4/358)، عمدة القاري (5/191)، إرشاد الساري (2/321)، وقال: فيه تقديم الأفقه الأقرأ وقد جمع الصديق - رضي الله عنه - بين الفقه وقراءة القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم  .

(6) ينظر: شرح ابن بطال (2/300)، التمهيد (22/125)، إكمال المعلم (2/319)، المنهاج (4/358)، مجموع الفتاوى (4/424)، منهاج السنة النبوية (8/564)، شرح الكرماني (5/52)، عمدة القاري (5/190، 202)، شرح الزرقاني (1/495)، الرياض النضرة (1/292)، تحفة الأحوذي (10/109).

(7) ينظر: التمهيد (22/134)، إكمال المعلم (2/325)، مجموع الفتاوى (22/623)، الفتح (2/199)، عمدة القاري (5/190)، نيل الأوطار (2/369).

(8) سورة مريم، من الآية: 58 .

(9) ينظر: المفهم (2/810)، تفسير القرطبي (16/302)، المنهاج (4/361)، اقتضاء الصراط المستقيم (ص224)، مجموع الفتاوى (25/324)، شرح الكرماني (5/51، 61)، الفتح (2/195)، عمدة القاري (5/189)، إرشاد الساري (2/321) و (2/308)، تنوير الحوالك (1/142)، الديباج (2/146)، شرح سنن ابن ماجه (ص86)، فيض القدير (6/357)، شرح الزرقاني (1/494)، نيل الأوطار (2/369)، تحفة الأحوذي (10/108).

(10) التمهيد (22/133)، وينظر: شرح الزرقاني (1/494)، تحفة الأحوذي (10/108).

(11) المنهاج (4/361)، شرح الكرماني (5/52).

(12) المنهاج (4/357)، شرح الكرماني (5/52).

(13) المنهاج (4/358)، عمدة القاري (5/190).



بحث عن بحث