حديث (كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ...)

 

عن عروة بن الزبير قَالَ : كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَاجْتَمَعَ صَوَاحِبِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ، وَاللَّهِ إِنَّ النَّاسَ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، وَإِنَّا نُرِيدُ الْخَيْرَ كَمَا تُرِيدُهُ عَائِشَةُ، فَمُرِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ أَنْ يُهْدُوا إِلَيْهِ حَيْثُ مَا كَانَ - أَوْ حَيْثُ مَا دَارَ  – قَالَتْ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَتْ [ أم سلمة ] : فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَلَمَّا عَادَ إِلَيَّ ذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ ذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ: « يَا أُمَّ سَلَمَةَ لاَ تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا نَزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا ». (1)  

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  كُنَّ حِزْبَيْنِ؛ فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ، وَالْحِزْبُ الآْخَرُ: أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  عَائِشَة،َ فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  أَخَّرَهَا حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  فِي بَيْتِ عَائِشَةَ بَعَثَ صَاحِبُ الْهَدِيَّةِ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  فِي بَيْتِ عَائِشَةَ فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ لَهَا كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  يُكَلِّمُ النَّاسَ فَيَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  هَدِيَّةً فَلْيُهْدِ إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ بُيُوتِ نِسَائِهِ فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا فَسَأَلْنَهَا فَقَالَتْ : مَا قَالَ لِي شَيْئًا، فَقُلْنَ لَهَا: فَكَلِّمِيهِ قَالَتْ فَكَلَّمَتْهُ حِينَ دَارَ إِلَيْهَا أَيْضًا فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا. فَسَأَلْنَهَا فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا. فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِيهِ حَتَّى يُكَلِّمَكِ فَدَارَ إِلَيْهَا فَكَلَّمَتْهُ فَقَالَ لَهَا: « لاَ تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلاَّ عَائِشَةَ » قَالَتْ: فَقَلَتْ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ .ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  تَقُولُ إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ فَكَلَّمَتْهُ فَقَالَ : يَا بُنَيَّةُ أَلاَ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ ؟ قَالَتْ : بَلَى فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ فَأَخْبَرَتْهُنَّ .فَقُلْنَ: ارْجِعِي إِلَيْهِ فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ. فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ فَأَتَتْهُ فَأَغْلَظَتْ وَقَالَتْ : إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي بِنْتِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ وَهِيَ قَاعِدَةٌ فَسَبَّتْهَا حَتَّى إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  لَيَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ هَلْ تَكَلَّمُ؟ قَالَ :فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ تَرُدُّ عَلَى زَيْنَبَ حَتَّى أَسْكَتَتْهَا قَالَتْ: فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  إِلَى عَائِشَةَ وَقَالَ: « إِنَّهَا بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ». (2)

السائلات :

هُنَّ : 1- أمُّ سُلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم .

2 – فاطمةُ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

3 – زينب بنت جحش، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم .

من فوائد الحديث :

 

1/ فيه مشروعية تحريّ الناسِ بالهدايا أوقاتَ المسرَّة والبهجة ومواضعَها من المهداة إليه ليزيدَ بذلك في سروره ويكونَ أبلغ في مرضاته (3).

2/ فيه تنافسُ الضرائر وتغايرهن على الرجل لفرط محبته، وما حصل من أمهات المؤمنين – رضي الله عنهن – من التبرّم والشكوى إليه كان حرصًا منهن على الاستكثار من الخير لا حسدًا وحقداً أو بغضًا لعائشة –رضي الله عنها- و أما الزوج فيسعه السكوت إذا تناظرن وتقاولن، والإعذار لهن والصبر عليهن و موعظتهن بالتي هي أحسن (4)

3/ وفيه ما كان عليه أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم  من مهابته والحياء منه بمراسلته، وامتناعهنَّ عن مشافهته بخَطْبِهِنّ مجتمعاتٍ، حتى بعثن إليه أعـز الناس لديه وهي ابنته فاطمة –رضي الله عنها-(5) مع سرعة رجوعهن إلى الحقِّ والإقرار به .

4/ رسالة العتاب التي حملتها أم سلمة – رضي الله عنها - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  « أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيثما كان » فيها كناية لطيفة عن رغبتهن في التسوية بينهن في المحبة، وحينئذٍ لن يتحرى الناس بهداياهم واحدة من أزواجه دون غيرها (6)

5/ سَعة حلم النبي صلى الله عليه وسلم  ومراعاته لمشاعر أم سلمة –رضي الله عنها- وسائر أزوجه –رضي الله عنهن- بالإعراض عن تذمِّرها مرةً تلو الأخرى والصدِّ عن جوابها مباشرة لتفهم من هذا الموقف حبَّه لعائشة –رضي الله عنها- قبل أن يصرَّح به .

6/ يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم  لم يمنع أصحابه أن يتحروا إهداؤه في يوم عائشة –رضي الله عنها- حياءً منهم، فليس من كمال الأخلاق أن يطلب الرجل من الناس مثل هذا، لما فيه من التعرُّضِ لطلب الهدية (7)

7/ قال النووي –رحمه الله-: أجمع المسلمون على أن محبة الرجل بعض أزواجه طبيعة لا تكليف فيها، ولا يلزمه التسوية فيها، لأنه لا قدرة لأحد عليها إلا الله سبحانه وتعالى، وإنما يؤمر الرجل بالعدل في الأفعال والنفقة والمبيت ونحو ذلك(8).

8/ قال المهلب – رحمه الله - : في هذا الحديث دليل على جواز إيثار بعض النساء بالتُّحف واللُّطف دون بعض، وليس كما قال، فالزوج مطالب بالعدل، أما المهدون الأجانب فليس أحدهم مطالبًا بذلك، ويقبل النبي صلى الله عليه وسلم  هداياهم حيث كان (9)

9/ الشهادة العظيمة والبشارة الخالدة الخاصَّة بعائشة –رضي الله عنه- لشرفها وعلوِّ قدرها عند الله سبحانه وعند رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهي شهادة جديرة بالذِّكر والفخر .

فقوله: « لا تؤذيني في عائشة ... » هو أبلغ وأعظم من قوله: لا تؤذي عائشة  ، فنسب الأذى إليه .. لا إليها .. لأن الملامة فيها تصله قبل أن تبلُغَها .. وتنالُ من مشاعره فتؤلمه قبل أن تشعر بها !!

« فوالله .. » قسم مؤكَّد .. من نبيِّ صادق يكشف عن سرِّ تعلُّقه بها .. ومودَّته العظيمة لها وأنه لم يكن تبعًا لهوى بل لحقيقة مهمة هي: «ما نزل عليَّ الوحي». من الله عز وجل: «وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها» !! وكفى به عزَّا وفضلاً ..اختارها الوحي الأمين .. فكيف لا يجتبيها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم  (10).

10/ استئذان فاطمة وزينب –رضي الله عنهما- على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخولهما عليه وهو مضطجع مع عائشة –رضي الله عنها- في مرطٍ لهما كما في رواية مسلم، دليل على أن مثل هذا مباح، إذ ليس فيه كشف عورة من فعلٍ مستتر به عن الناس (11)

11/ في الرواية التي أخرجها البخاري ومسلم في حكاية موقف زينب بنت جحش، وعائشة –رضي الله عنهما - حينما تناولت الأولى ضرتها فسبتها «حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم  لينظر إلى عائشة : هل تكلّمُ ؟ ». ليس فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم  أذن لعائشة ولا أشار بعينه ولا غيرها لتردّ عليها، ولا يحل اعتقاد ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم  تحرم عليـه خائنة الأعين، وإنما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم  لما رأى إغلاظ زينب عليها ورأى تطلّع عائشة إلى الردِّ عليها، فلم ينهها، فهمت عائشة –رضي الله عنها- أنه لا ينكر انتصارها: (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ)  (12)

ولذلك قال في آخر الحديث: « إنَّها بنتُ أبي بكرٍ » وهذا يدلُّ على أَنَّه وافقها ورضي بقولها .

بل فيه إشادة بها وإشارة إلى كمال فهمها، وحسن ردها، وعلمها وأنها شريفة عاقلة عارفة بالأنساب والمثالب كأبيها أبي بكر –رضي الله عنه- (13)

فلا يلام صلى الله عليه وسلم  في حبها وتفضيلها وهي بضعةٍ من أبي بكرٍ – رضي الله عنه - أكمل هذه الأمة بعد نبيها إيمانًا وفضلاً وشرفًا ونصرةً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم  .

 


(1) صحيح رواه البخاري (307 ح3775) وله شاهد عن مسلم يأتي بعد هذا الحديث .

(2) متفق عليه ، رواه البخاري (203 ح 2581) وذكر قصة استئذان فاطمة تعليقاً . ينظر تغليق التعليق (3/355).

و مسلمٌ (1106 ح2442) بسنده عن عائشة وفيه : فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم  زينبَ بنت جحشٍ زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي التي كانت تساميني منهنَّ في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم أر امرأةً قطُّ خيرًا في الدين مِنْ زينبَ، وأتقى لله، وأصدق حديثًا، وأوصل للرَّحم، وأعظم صدقةً، وأشدَّ ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدَّق به، وتَقَرَّبُ بِهِ إلى الله [تعالى] ما عدا سورةً من حدَّةٍ كانت فيها، تسرعُ منها الفيئةَ.

قالت: فاستأذنتْ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم  مع عائشة في مِرْطِها على الحال التي دخلتْ فاطمةُ عليها وهو بها .

فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقالت: يا رسول اللهِ إنَّ أزواجك أرسلنني إليك يسْألنَكَ العدل في ابنة أبي قحافة .

قالت: ثم وقعت بي، فاستطالت عليَّ، وأنا أرقبُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم  وأرقب طَرفَهُ، هل يأذنُ لي فيها، قالت: فلم تبرحْ زينبُ حتى عرفتُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  لا يكره أن أنتصر، قالت: فلما وقعتُ بها لم أنشبها حتى أنحيتُ عليها، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  وتبسَّم: « إنَّها ابنةُ أبي بَكْرٍ».

ورواه من طريق الزّهري بهذا الإسناد، بمثله في المعنى غير أنه قال: فلما وقعتُ بها لم أنْشَبها أن أثخنتُها غَلَبَةً .

(3)  ينظر:شرح ابن بطال (7/94)، شرح الكرماني (11/120)، عمدة القاري(13/133) .

(4)  ينظر: شرح الكرماني (11/120)، فتح الباري (5/260) .

(5)   فتح الباري (5/260) .

(6)   ينظر: حاشية السندي (7/69) .

(7)   ينظر: شرح ابن بطال (7/94)، فتح الباري (5/260)، إرشاد الساري (6/18)، تحفة الأحوذي (10/256) .

(8)   ينظر: شرح الكرماني (11/120)، إكمال المعلم (7/448)، المنهاج (15/201)، الفتح (7/109)،.

(9)   ينظر: المصادر والمراجع في هامش (2) .

(10)  ينظر: حاشية السندي (7/68)، فتح الباري (5/260)، إرشاد الساري (8/251)، عمدة القاري (13/133)، تحفة الأحوذي (10/256) .

(11)  إكمال المعلم (7/ 449) .

(12)  سورة الشورى (41) .

(13)  ينظر: شرح ابن بطال (7/94)، إكمال المعلم (7/451)، المنهاج (15/203)، الفتح (5/260)، إرشاد الساري (6/18) .

 



بحث عن بحث