أمانته و وفاؤه - صلى الله عليه وسلم-

 

لئن كان خلق الأمانة والوفاء عظيماً في سائر الناس؛ لما له من الأثر الكبير في صلاح أمر الدنيا والدين، فإنه في أنبياء الله ورسله أعظم، وفي حقهم أوجب وألزم، فطرهم الله ورباهم عليها ليتمكّنوا من تبليغ رسالاته إلى خلقه، وكان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم- في الذروة العليا من هذه الأخلاق والسجايا الكريمة، وكماله فيها فاق كل كمال.

لقد نشأ يتيماً مطبوعاً على الأمانة والوفاء بالعهد، فلا يكاد يعرف في قومه إلا بالأمين، فيقولون:جاء الأمين، وذهب الأمين، وحلّ في نفوسهم وقلوبهم أعلى منازل الثقة والرضى!!(1)

كما دلّ على ذلك احتكامهم إليه في الجاهلية في قصة رفع الحجر الأسود عند بنائهم الكعبة المشرفة، بعد تنازعهم في استحقاق شرف رفعه ووضعه في محله، حتى كادوا يقتتلون، لولا اتفاقهم على تحكيم أول داخل يدخل المسجد الحرام، فكان هو محمد - صلى الله عليه وسلم- فلما رأوه قالوا: (هذا الأمين، رضينا هذا محمد)(2).

و بلغ من ثقتهم الكبيرة في أمانته ووفائه ما اعتادوا عليه من حفظ أموالهم ونفائس مدّخراتهم لتكون وديعة عنده، ولم يزل هذا شأنهم حتى بعد معاداته بسبب نبوّته، ودعوتهم إلى الإيمان، ونبذ عبادة الأوثان، فلم يخالجهم الشك في أمانته و وفائه! ومما يدل على ذلك ترك علي بن أبي طالب  -رضي الله عنه- بمكة بعد هجرته - صلى الله عليه وسلم- ليرد للناس  ودائعهم التي كانت عنده، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم-.(3)

ولقد تحقق ذلك الخلق العظيم بأتمّ معانيه، وأحسن مراميه بعد نبوّته - صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الله تعالى أراده خاتماً لأنبيائه ورسله إلى الناس كافة، و لا يُمكّن من ذلك إلا أمين كامل الأمانة، يحظى بثقة الناس فيستجيبون له ويؤمنون به.

و أدّى نبينا - صلى الله عليه وسلم- شرع ربنا - تبارك وتعالى- كما أراده الله - عزّ وجل-، وبلّغ آياته فلم يكتم منها حرفاً، وإن كان عتاباً له ولوماً، وشهد له في كتابه بهذا البلاغ الكامل حتى تمّ الدين، وظهر الإسلام قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً) [سورة المائدة:3].

و إن من المواقف العظيمة في أمانته ما رواه سعد -رضي الله عنه- قال لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله) فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)(4).

و أما الوفاء فله منزلة عظيمة في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم-، فكان أوفى الناس مع ربه - تبارك و تعالى-، و مع أصحابه، وأزواجه، وذويه، بل وأعدائه!.

و من أروع المواقف النبوية التي تتجسد فيها هذه السجية الفاضلة ؛ وفاؤه لحاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- مع فعلته الكبرى، وهي إفشاؤه لسر النبي - صلى الله عليه وسلم- في أشد المواقف خطورة، موقف الغزو الذي لا تغفر البشرية لمثله؛ لأنه تجسس وخان خيانة عظمى.

فقد كتب حاطب إلى أهل مكة يخبرهم بمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إليهم بجيشه لفتح مكة، وأرسله خفية مع ظعينة له، فلما أطلع الله - تعالى- نبيه - صلى الله عليه وسلم- على ذلك، ومكّنه من إحباطه، وراوده بعض أصحابه على ضرب عنقه، قال - صلى الله عليه وسلم-: (إنه قد شهد بدراً، و ما يدريك لعلّ الله اطّلع على من شهد بدراً فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)(5).

فانظر إلى مبلغ وفائه لأصحابه! وإن عظمت زلّة أحدهم، أو كبر خطؤه، ما لم يكن في حدّ من حدود الله – سبحانه-، أو تهاون بشرعه، و أمكن تدارك الخطر قبل وقوعه.

و لاشك أن هذا الوفاء الفريد، والتصرف الرشيد، سيعزز حبّ ذلك الصحابي للتوبة النصوح من هذا الذنب الذي لا يبرره خوفه على أهله وذويه في مكة.

 وهكذا كانت شمائل النبي - صلى الله عليه وسلم- حقائق عملية في مواقف الحياة المتنوعة، تربي النفوس وتهذبها على معاني الفضيلة، وتغرس في القلوب روائع الإيمان بالله - عزّ وجلّ-.

 تكتب هذه السلسلة

 د/ منى القاسم


(1)      انظر هذه المقالة في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم- للدكتور/ أحمد الحداد (2/538ـ 574) نقلتها باختصار.
(2)     
سيرة ابن هشام (1/28)، وطبقات ابن سعد (1/146).   
(3)     
سيرة ابن هشام (2/237).    
(4)     
رواه أبو داود (4359)، و الحاكم ( 4360)، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.    
(5)      رواه البخاري (5/184)، ومسلم ( 2494).

 



بحث عن بحث