ضحكه، ومزاحه - صلى الله عليه وسلم-

 

عن جرير -رضي الله عنه- قال :" ما حجبني النبي  - صلى الله عليه وسلم -  منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي ..."(1) الحديث .

وعن أبي ذر- رضي الله عنه- قال : قال رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - : "إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا منها، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا، فلقد رأيت رسول الله  - صلى الله عليه وسلم- ضحك حتى بدت نواجذه ".(2)

 

عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا قال :"إني لا أقول إلا حقا ".(3)


البسمة آية من آيات الله تعالى، ونعمة ربانية عظيمة، إنها سحر حلال  تنبثق  من القلب، وترتسم على الشفاه  فتنثر عبير المودة، وتنشر نسائم المحبة، وتستلّ  عقد الضغينة والبغضاءً لتحل ّالألفة والإخاء، وكما قال ابن عيينة -رحمه الله -: البشاشة مصيدة القلوب. وأوصى ابن عمر- رضي الله عنه- ابنه فقال:

 

           بنيّ إن البر شيء هيّن     **     وجه طليق وكلام ليّن

 

لقد أرسى الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم- خلق البسمة والبشاشة، وعلّم الإنسانية هذه اللغة العالمية اللطيفة بقوله، وفعله، وسيرته العطرة.

فكان - صلى الله عليه وسلم- بسّام الثغر، طلق المحيا،  يحبه بديهة من رآه،  ويفديه من عرفه بنفسه وأهله، وأغلى ما يملك!

 لقد كانت تبسمه لأهله وأصحابه  بذرا طيبا آتى أكله ضعفين، خيراً في الدنيا، وأجراً في الآخرة  .

أما الخيرية العاجلة ؛ فانشراح القلب، وراحة الضمير، ومنافع صحية أخرى أثبتها الأطباء على البدن، ويتبعها مصالح اجتماعية وشرعية من تأليف القلوب  وربطها بحبل المودة المتين،  وترغيبها لحب الدين ، فالبسمة  بريد عاجل إلى الناس كافة، لا تكلفنا مؤنا مالية، أو متاعب جسدية؛ بل تبعث في ومضة سريعة يبقى أثرها الحميد عظيما في النفوس!

والخيرية الآجلة ؛ الثواب المثبت في جزاء الصدقة، وبذل المعروف ، فالتبسم في وجه المسلم صدقة فاضلة، يسطيعها الفقير والغني على حدّ سواء.

وربما ساغ للبعض البخل بالابتسامة، وإيثار العبوس والجفاء، للظهور بما يظنه سمت أهل العبادة والزهد، أو يحسب بشاشته سبباً لقسوة القلب وغفلته، وذهاب المروءة !  فأين هو  من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم- وسنته، ويسر دينه ورحمته ؟!.

ألا ترى كيف ضحك الحبيب - صلى الله عليه وسلم- ابتهاجاً برحمة ربه - تبارك وتعالى- حتى بدت أنيابه ، وكان  يداعب الصغار ويسليهم ، ويؤانس أصحابه الرجال ويمازحهم ، حتى يقول القائل منهم متعجباً لسماحته -صلى الله عليه وسلم- : (إنك تداعبنا ؟!)  فلا يمنعهم مزاحه، ولا يعتبره منافيا لمقام النبوة، وشرف الرسالة، ومهام الدعوة إلى الله تعالى .

و يكتفي لأصحابه بضابط الدعابة الحسنة بقوله:" إني لا أقول إلا حقاً " أي صدقاً وعدلاً.

فالمداعبة مطلوبة محبوبة، لكن في مواطن مخصوصة، فليس في كل آن يصلح المزاح، ولا في كل وقت يحسن الجد.

 

    أهازل حيث الهزل يحسن بالفتى     **    وإني إذا جدّ الرجال لذو جدّ

 

 قال الراغب - رحمه الله -: المزاح والمداعبة إذا كان على الاقتصاد محمود، والإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرّئ السفهاء،  وتركه يقبض المؤانس، ويوحش المخالط.

فالمنهي عنه ما فيه كذب، أو مداومة عليه؛ لما فيه من الشغل عن ذكر الله تعالى(4).

وبعد، فهل يترقى المربون، والمعلمون، والدعاة، والموجهون، والآباء، والأمهات والمسؤولون، والرعاة إلى أن تعلو شفاههم البسمة فيقتدي بهم من كان تحت أيديهم وتحت رعايتهم؟!.


 

                                                          تكتب هذه السلسلة

                                                              د/ منى القاسم

 


(1) -  صحيح البخاري (5739).

(2) -  صحيح مسلم (190).

(3) -  سنن الترمذي (1990) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.

(4) -  فتح الباري 10 /526 ، تحفة الأحوذي 6/108، فيض القدير 3/14.

 

 



بحث عن بحث