تلبية الفطرة في تعشق البطولة

الموقف الثاني

 في أعقاب بدر ، جلس في مكة صفوان بن أمية وعمير بن وهب ، وقد قتل والد الأول في هذه المعركة ، وأسر ابن الثاني ، كان الحقد يغلي في نفسيهما، وكان الكره على أشده تجاه محمد صلى الله عليه وسلم .. وكانت بينهما اتفاقية ، عقدها هذا الكره والبغض المشترك ، يقوم عمير بموجبها باغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويقوم صفوان بتحمل دينه والنفقة على عياله إن أصابه مكروه .

وذهب عمير لتنفيذ المهمة ، وقد سم سيفه وأعد عدته .. وأناخ بباب المسجد ، ثم دخله ، فلما رآه عمر سارع إليه وأخذ بتلابيبه ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أرسله يا عمر ، ادن يا عمير ، فدنا ثم قال : أنعموا صباحا – وكانت تحية أهل الجاهلية – فقال صلى الله عليه وسلم : قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير ، بالسلام ، تحية أهل الجنة ، فقال : أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث عهد ...

محاورة فيها كل العطف والحنان من الرسول الكريم .. ثم سأله : ما جاء بك ؟ قال : جئت لهذا الأسير ، قال : فما بال السيف في عنقك ؟ قال :قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئا ؟ قال : اصدقني ما الذي جئت له ؟ قال : ما جئت إلا لهذا . قال : بل قعدت أنت وصفوان في الحجر ، ثم قلت لولا دين علي ... لخرجت حتى أقتل محمداً ، والله حائل بينك وبين ذلك ... وتشهد عمير شهادة الحق وأطلق له أسيره ، وأصبح واحدا من المسلمين .

إنه موقف إعجاب بالحلم وسعة الصدر ، إعجاب بذلك اللقاء الذي تلقاه به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يفيض حنانا وعطفا : دعه يا عمر ... ادن يا عمير ... يقول هذا وهو على علم بما جاء له .

وأما صفوان ... فقد كان إسلامه بعد فتح مكة ، وندعه يتحدث كيف أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال صفوان : أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس إلي ، فما زال يعطيني حتى صار وإنه أحب الناس إلي (1).

بدأ صفوان بالإعجاب بالنبي صلى الله عليه وسلم من زاوية واحدة ، هي زاوية الكرم ، وإذا به أمام صورة من الكرم لم يشهدها في حياته قط ويتحول الإعجاب إلى حب.

ويوضح لنا أنس هذا المعنى حيث يقول : إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه غنما بين جبلين ، فأتى قومه فقال : يا قوم أسلموا ، فإن محمدا يعطي عطاء رجل لا يخاف الفاقة ، وإن كان الرجل ليجئ إليه ما يريد إلا الدنيا ، فما يمسى حتى يكون دينه أحب إليه من الدنيا بما فيها (2).

إن دراسة السيرة تلبي لنا هذه الحاجة النفسية بواقع صادق ، فتركن النفس فيه إلى إعجاب حق ، بعيد عن الزيف والمبالغة .


(1)- رواه مسلم برقم ( 2313 ) .

(2) - رواه بتمامه، أحمد في المسند ( 3/259 ) وروي مسلم القسم الأول منه برقم ( 2312 ) .



بحث عن بحث