التربية الإيمانية(7)

 

 

الصحابة هكذا كانوا زهادا  :

  بهذه المستويات الإيمانية تعامل الصحابة - رضوان الله عليهم - مع الدنيا فكانت منهم أحوال عجيبة يستغرب منها أمثالنا من ضعاف الإيمان الذين لا يزالون في مرحلة الطفولة واللهو بطين الأرض .

فهذا أبو الدرداء نزلت به جماعة من الأضياف في ليلة شديدة البرد فأرسل إليهم طعامًا ساخنًا ، ولم يبعث إليهم بالأغطية  فلما هموا بالنوم جعلوا يتشاورون في أمر اللُّحف ، فقال واحد منهم أنا أذهب إليه وأكلمه ، فمضى حتى وقف على باب حجرته فرآه قد اضطجع وما عليه إلا ثوب خفيف لا يقي من حر ولا يصون من برد ، فقال الرجل لأبي الدرداء : ما أراك بت إلا كما نبيت نحن !! أين متاعكم ؟! فقال : لنا دار هناك نُرسل إليها تباعًا كل ما نحصل عليه من متاع ولو كنا قد استبقينا في هذه الدار شيئًا منه لبعثنا به إليكم ، ثم إن في طريقنا الذي سنسلكه إلى تلك الدار عقبة كؤود المُخِفّ فيها خير من المُثقِل ، فأردنا أن نتخفف من أثقالنا علَّنا نجتاز (1)  .

وكان طلحة بن عبيد الله تاجرًا فجاءه ذات يوم مال من « حضرموت » مقداره سبعمائة ألف درهم ، فبات ليلته جزعًا محزونًا .

فدخلتْ عليه زوجته أم كلثوم ، وقالت : ما بك يا أبا محمد ؟!! لعله رابك منَّا شيء !!

فقال : لا ، ولنِعْمَ حليلة الرجل المسلم أنت ، ولكن تفكرت منذ الليلة وقلت : ما ظن رجل بربه إذا كان ينام وفي بيته هذا المال ؟! ، قالت : وما يغمك منه ؟! أين أنت من المحتاجين من قومك وأخلَّائك ؟! فإذا أصبحت فقسمه بينهم ، فقال : رحمك الله ، إنك موفقة بنت موفق ، فلما أصبح  جعل المال في صُرَرٍ وجِفَان ، وقسمه بين فقراء المهاجرين والأنصار (2).

.. وفي يوم من الأيام دخل على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعض ممن يثق بهم من أهل « حِمص » ، فقال لهم : اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسُدّ حاجاتهم ، فرفعوا إليه كتابًا فإذا فيه فلان وفلان ، وسعيد بن عامر ، فقال : ومن سعيد بن عامر ؟! فقالوا : أميرنا . قال : أميركم فقير ؟! قالوا : نعم ، ووالله إنه لتمر عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نار ،  فبكى عمر حتى بللت دموعه لحيته ، ثم عمد إلى ألف دينار فجعلها في صرة وقال : اقرؤوا عليه السلام مني ، وقولوا له : بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجاتك .

جاء الوفد لسعيد بالصُرَّة فنظر إليها فإذا هي دنانير ، فجعل يُبعدها عنه ويقول :« إنا لله وإنا إليه راجعون» فهبَّت زوجته مذعورة وقالت : ما شأنك يا سعيد ؟! أمات أمير المؤمنين ؟! قال : بل أعظم من ذلك . قالت : أأُصيب المسلمون في واقعة ؟! قال : بل أعظم من ذلك ، قالت : وما أعظم من ذلك ؟! قال : دخَلتْ عليَّ الدنيا لتُفسد آخرتي ، ودخَلتْ الفتنة في بيتي . فقالت : تخلَّص منها ، قال : أوتُعِينيني على ذلك ؟ قالت : نعم . فأخذ الدنانير فجعلها في صُرَرٍ ثم وزعها (3) .

.. وهذا خباب بن الأرت يدخل عليه بعض أصحابه وهو في مرض الموت فيقول لهم : إن في هذا المكان ثمانين ألف درهم ، والله ما شدَدْتُ عليها رباطًا قط ، ولا منعت منها سائلًا قط ، ثم بكى ، فقالوا : ما يبكيك؟! فقال أبكي لأن أصحابي مضوا ولم ينالوا من أجورهم في هذه الدنيا شيئًا ، وإني بقيت فنلت من هذا المال ما أخاف أن يكون ثوابًا لتلك الأعمال(4) .

 وهذا سعد بن أبي وقاص يذهب إلى سلمان الفارسي يعوده فرآه يبكي ، فقال له سعد : ما يبكيك يا أخي ؟ أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أليس ..؟ قال سلمان : ما أبكي واحدة من اثنتين ، ما أبكي ضَنًّا على الدنيا ، ولا كراهية في الآخرة ، ولكن رسول الله صلى الله عليه عهد إلينا عهدًا ما أراني إلا قد تعدَّيت ، قال : وما عَهِد إليك ؟ قال : عَهِد إلينا أنه يكفي أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب ، ولا أراني إلا قد تعدَّيت (5) ..  فجُمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر درهما (6) .


(1) الإصابة ج3 ترجمة ( 6117) ، وأسد الغابة ( 4/159) ، تاريخ الإسلام للذهبي ( 2/107 ) .

(2) طبقات ابن سعد ( 3/214) ، وتهذيب التهذيب ( 5/20) ، والإصابة ( 2/229) ترجمة ( 4266) ، وحلية الأولياء ( 1/7) .

(3) الإصابة ج2 ، ترجمة ( 3270 ) ، وحلية الأولياء ( 1/244) ، وتهذيب التهذيب ( 4/51) ، وصفة الصفوة ( 1/372 ) .

(4) الإصابة ، ج1 ، ترجمة (2210) ، وأسد الغابة ( 1/316 ) ، وحلية الأولياء ( 1/143) ، وصفة الصفوة ( 1/168) .

(5) أخرجه أبو يعلى (8/80 ، رقم 4610) ، والطبراني (4/77 ، رقم 3695) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/307 ، رقم 10400) ، وأبو نعيم في الحلية (1/360) .

(6) أخرجه ابن حبان (2/481 ، رقم 706) .

 

 



بحث عن بحث