الصيام والتقوى

 

يقول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )

ففي هذه الآية الكريمة يحدد ربنا عز وجل الهدف من الصوم فيجعله التقوى ، إذ أنه سبحانه لم يقل : لعلكم تتألمون ، كما أنه لم يقل : لعلكم تصحون ، أو لعلكم تقتصدون ، وإنما قال : ( لعلكم تتقون ) فجعل الصوم اختبارا روحيا ، وتجربة خلقية ، وأراد منه أن يكون وسيلتك إلى نيل صفة المتقين ، وأداتك في اكتساب ملكة التقوى .

التقوى إذن هي الهدف الحقيقي للصيام ، الذي إن أصبته جاءت من ورائه كل الثمرات مكرهة راغمة ، وإن أخطأته فقد أضعت عملك كله سدى.

فما أدراك ما التقوى ؟ إنك لن تحيط بكنهها ، ولن تقدرها حق قدرها ، إلا إذا عرفت طبقات الكائنات ومراتب الوجود .

فاعلم أن للوجود ثلاث مراتب :

 

1 ــ  مرتبة السيادة العظمى : وهذه قد استأثر بها الواحد الأحد ، الفرد الصمد .

2 ــ ومرتبة العبودية الدنيا : وهذه هي مرتبة الكائنات العاجزة المسخرة لقانون الطبيعة ، والتي ليس لها من الحرية نصيب ، كالجماد والحيوان . وإن الإنسان ليهبط إلى هذه المنزلة إذا وقع أسيرا في قبضة شهواته .

3 ــ وبين هاتين المرتبتين مرتبة تجتمع فيها السيادة على الكون ، والعبودية لخالق الكون ، وتلك هي المنزلة التي يصعد إليها الإنسان ، إذا وقف يتلقى أوامره العليا من ربه ، ثم جعل يلقي هذه الأوامر على جنوده من القلب والجوارح .

فإذا أسلمت له تلك الجنود مقاليدها ، فصار قائدا مطاعا في جنده ، سيدا مهيبا في مملكته الصغيرة ، فقد نال صفة التقوى ، وأصبح جديرا بالاستخلاف في الأرض والتمكين له فيها . وأكرم بعبودية هي عين السيادة .

تلك هي التقوى التي أراد الله أن تكون ثمرة صيامك ، وهي في الحقيقة هدف مشترك بين العبادات والطاعات جميعا ، غير أن للصوم في تحصيلها أثرا أوسع وأعم ، والمنزلة التي يبلغها الصائم بين مراتب المتقين ، هي أعلى المراتب وأسماها .

أما أن أثر الصوم في التقوى أوسع وأعم ، فلأن التقوى التي تثمرها سائر الواجبات إنما هي كف عن المحارم ، أما الصيام فإنه يجئ من وراء هذه الدائرة المحظورة ، فيضيف إليها نطاقا جديدا يعلمنا به كيف نكف عن بعض الحلال والمباح ؟ وكيف نستغني أحيانا عما هو في العادة من مقومات الحياة . فإذا كانت الطاعات الأخرى تورث أوائل درجات التقوى ، بالاعتدال والاستقامة ، فإن الصيام يورث نهاية درجاتها ، بالزهد والورع .

إن منزلة الصيام هي أسمى مراتب التقوى ، وأكرمها عند الله ، فإن في سائر العبادات جوانب ، تحببها إلى النفوس الكريمة ، وتقربها من مقتضى الطباع السليمة : ففي الصلاة مثلا ، حلاوة المناجاة . وفي الزكاة : أريحية الجود والكرم . وفي الجهاد : عزة الحمية وإباء الضيم .

أما الصيام ، فإنه ليس فيه معاونة من الطبع ، بل فيه على العكس معاندته ومقاومته ، فكان أقرب الأعمال إلى الخلوص عن الشوائب . ولعله من أجل ذلك كانت الأعمال كلها يثاب عليها بأضعاف معلومة ، من العشرة إلى السبعمائة ، إلا الصوم فإن تضعيف جزائه لا يدخل تحت حصر ولا عد ، كما جاء في الحديث القدسي : ( كل عمل ابن آدم له ، إلا الصوم فإنه لي ، وأنا أجزي به ) (1) ومصداقه في الكتاب العزيز : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )  ( سورة الزمر / 10 ) .

هذا الفضل العظيم إنما هو كما قلنا ، لمن فقه حكمة الصوم وصحح فيه نيته ، وذلك إنما يكون بجعله نهاية الطهر لا بدايته ، فبداية الطهر: طهر الأبرار ، بترك المحارم ، ونهاية الطهر: طهر الأخيار ، بالتحرر من عادة الترف والعيش الناعم ، حتى إذا جاء الغد ، وجد الجد ، ودعا الداعي إلى التضحية العظمى ، نكون قد أخذنا للأمر عدته ، حيث مارسنا الصبر وشدته ، ويومئذ نرضى بالظمأ والنصب والمخمصة في سبيل الواجب،( ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما )  ( سورة   النساء /114 )


(1)  أخرجه البخاري ، كتاب الصوم ، باب  فضل الصوم ( 1894 ) ، ومسلم (2704)

 



بحث عن بحث