مظاهر الوسطية

 

مظاهر الوسطية :

إن الأمة الإسلامية هي الأمة الوسط ، أي أمة العدل والقسط ، أمة الحسن والفضل،أمة الاعتدال والقصد،وهذه الوسطية تتجلي في كل جوانب الإسلام،فالإسلام وسط في الاعتقاد والتصور،وسط في التعبد والتنسك ، وسط في الأخلاق والآداب،وسط في التشريع والنظام .

 

وسطية الإسلام في الاعتقاد :

لقد اعترى جانب العقيدة في هذا الدين ما اعترى غيره من الانحراف عن المنهج الوسط العدل الذي أراده الله عز وجل في أبواب العقيدة ، وتراوح هذا الانحراف بين الغلو والإفراط وبين التفريط والتقصير، وسلم الله عز وجل من شاء من عباده المؤمنين من الانحراف إلى أحد هذين الطرفين ، ورزقهم الاستقامة والعدل وطريق الأمة الوسط، وهم أهل السنة والجماعة والاتباع للكتاب والسنة بفهم الصحابة رضي الله عنهم.

ومن مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الاعتقاد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ عن أهل السنة والجماعة ، وأنهم وسط في دين الله

عز وجل بين الغالي والجافي ، قال رحمه الله تعالى :

1 ــ وهذه الفرقة الناجية ( أهل السنة ) وهم وسط في النحل ، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل ، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين ، لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون .

ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود ، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ، وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقا وقتلوا فريقا .

بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم ، ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أربابا ، كما قال تعالى :(ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون . ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون )(1).

2 ــ ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في ( المسيح ) فلم يقولوا هو الله ولا ابن الله ولا ثالث ثلاثة ، كما تقول النصارى ، ولا كفروا به وقالوا على مريم بهتانا عظيما ، حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود ، بل قالوا هذا عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه .

3 ــ وكذلك المؤمنون ( وسط في شرائع دين الله ) فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء ويمحوا ما شاء ويثبت ، كما قالته اليهود كما حكى الله ذلك عنهم بقوله : ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها )(2)، وبقوله : ( وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم )(3).

ولا جوزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله ، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عما شاءوا ، كما يفعله النصارى ، كما ذكر الله عنهم بقوله : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله )(4).

قال عدي بن حاتم رضي الله عنه : قلت : يا رسول الله ما عبدوهم ؟ قال : ( ما عبدوهم ، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم ، وحرموا عليه الحلال فأطاعوهم )(5).

4 ــ والمؤمنون قالوا ( لله الخلق والأمر ) فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره . وقالوا : سمعنا وأطعنا ، فأطاعوا كل ما أمر الله به ، وقالوا : ( إن الله يحكم ما يريد )(6). وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيما .

5 ــ وكذلك في صفات الله تعالى ، فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات

المخلوق الناقصة ، فقالوا : هو فقير ونحن أغنياء ، وقالوا يد الله مغلولة ، وقالوا إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت ، إلى غير ذلك .

والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به ، فقالوا : إنه يخلق ويرزق ، ويغفر ويرحم ، ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب.

والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى ، ليس له سمي ولا ند ، ولم يكن له كفوا أحد ، وليس كمثله شيء ، فإنه رب العالمين وخالق كل شيء ، وكل ما سواه عباد له فقراء إليه (إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا . لقد أحصاهم وعدهم عدا . وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)(7).

6 ــ وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق ، فهم في ( باب أسماء الله وآياته وصفاته ) وسط بين " أهل التعطيل " الذين يلحدون في أسماء الله وآياته ، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه ، حتى يشبهوه بالعدم والموات ، وبين " أهل التمثيل " الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات .

فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف وتمثيل .

7 ــ وهم في ( باب خلقه وأمره ) وسط بين المكذبين بقدرة الله ، الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء ، وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل ، فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب ، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا : ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء )(8).

فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير ، فيقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم ، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ مراده ، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات .

ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل ، وأنه مختار ، ولا يسمونه مجبورا ، إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره ، والله سبحانه جعل العبد مختارا لما يفعله ، فهو مختار مريد ، والله خالقه وخالق اختياره ، وهذا ليس له نظير ، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .

8 ــ وهم في ( باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد ) وسط بين الوعيدية ، الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار ، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية ، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبين المرجئة الذين يقولون : إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء ، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان ، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية .

فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذين يستوجبون به الجنة ، وأنهم لا يخلدون في النار ، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان

أو مثقال خردلة من إيمان ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته .

9 ــ وهم أيضا في ( أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم ) وسط بين الغالية الذين يغالون في علي رضي الله عنه ، فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما ، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا ، وكفروا الأمة بعدهم كذلك ، وربما جعلوه نبيا أو إلها ، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره وكفر عثمان رضي الله عنهما ، ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما ، ويستحبون سب علي وعثمان ونحوهما ، ويقدحون في خلافة علي رضي الله عنه وإمامته .

[فهم وسط بين هؤلاء وأولئك ، فيحبون أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ويوالونهم ويترضون عنهم ، ولا يغلون فيهم ولا يخرجونهم عن منزلتهم التي هم عليها]

10 ــ وكذلك في سائر ( أبواب السنة ) هم وسط ، لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان(9).

 

وسطية الإسلام في العبادة :

الإسلام وسط في عباداته وشعائره بين الأديان والنحل التي ألغت الجانب " الرباني " ــ جانب العبادة والتنسك والتأله ــ من فلسفتها وواجباتها ، كالبوذية التي اقتصرت فروضها على الجانب الأخلاقي الإنساني وحده ..

وبين الأديان والنحل التي طلبت من أتباعها التفرغ للعبادة والانقطاع عن الحياة والانتاج ، كالرهبانية المسيحية .

فالإسلام يكلف المسلم أداء شعائر محدودة في اليوم كالصلاة ، أو في السنة كالصوم ، أو في العمر مرة كالحج ، ليظل دائما موصولا بالله ، غير مقطوع عن رضاه ، ثم يطلقه بعد ذلك ساعيا منتجا ، يمشي في مناكب الأرض ، ويأكل من رزق الله .

ولعل أوضح دليل نذكره هنا : الآيات الآمرة بصلاة الجمعة : ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون )(10).

فهذا شأن المسلم مع الدين والحياة حتى في يوم الجمعة : بيع وعمل للدنيا قبل الصلاة ، ثم سعي إلى ذكر الله وإلى الصلاة وترك للبيع والشراء وما أشبهه من مشاغل الحياة ، ثم انتشار في الأرض وابتغاء الرزق من جديد بعد انقضاء الصلاة ، مع عدم الغفلة عن ذكر الله كثيرا في كل حال ، فهو أساس الفلاح والنجاح(11).

ويقول الله تعالى : (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين )(12).

لقد خلق الله طيبات هذه الحياة ليستمتع بها الناس ، وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها ، فتنموا الحياة وتتجدد ، وتتحقق خلافة الله في هذه الأرض ، ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة ، فلا ينحرفون عن طريقها ، ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها . والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم ، وتقبل لعطاياه ، وانتفاع بها . فهو طاعة من الطاعات يجزى عليها بالحسنى .

وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان ، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة ، التي لا حرمان فيها ، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة .

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها بالقسطاس المستقيم ، وكان من دعائه :" اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادى ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير ، واجعل الموت راحة لي من كل شر " (13).

فهذا الدعاء النبوي المأثور ، يبين موقف المسلم من الدين والدنيا والآخرة ، انه يطلبها جميعا ، ويسأل الله أن يصلحها له جميعا ، الدين والدنيا والآخرة ، إذ لا غنى له عن واحد منها ، فالدين عصمة أمره ، وملاك حياته ، والدنيا فيها معاشه ، ومتاعه إلى حين ، والآخرة إليها معاده ومصيره .

وهو مثل الدعاء القرآني الموجز الذي كان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو به : " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " (14) .

وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على توجيه أصحابه إلى التوازن المقسط بين دينهم ودنياهم ، بين حظ أنفسهم وحق ربهم ، بين متعة البدن ونعيم الروح . فإذا رأى في بعضهم غلوا في جانب ، قومه بالحكمة ورده إلى سواء الصراط .

عن أنس رضي الله عنه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؛ قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني ) (15).

يقول صاحب كتاب الوسطية في القرآن : " فهذا موقف من مواقف الغلو يجلي لنا سبب هذه النزعة : وهو الرغبة الصادقة في التزود من الخير التي دفعتهم للسؤال عن أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في عبادته ، فلما علموا ، رأوا أن ذلك قليل فقالوا ما قالوا .

ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر هذا الاتجاه فبادر بعلاجه ، وصحح نظرتهم لتحصيل خشية الله وتقواه ؛ فبين أنها ليست بالتضلع من أعمال والتفريط في أخرى،ولكنها تحصل بالموازنة بين جميع مطالب الله ، وهذا هو عين الوسطية والحكمة والاستقامة والاعتدال والعدل "(16).

ويعلق صاحب الظلال على هذا الحديث وأمثاله فيقول : " والذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية الطليقة ؛ كلاهما يخرج على سواء فطرته ويريد من نفسه ما لم يرده الخالق له ، وكلاهما يدمر نفسه بتدمير ذلك المركب في كيانها الأصيل . وهو محاسب أمام الله على هذا التدمير .

من أجل هذا أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من أراد أن يترهبن  فلا يقرب النساء،ومن أراد أن يصوم فلا يفطر،ومن أراد أن يقوم الليل فلا ينام . أنكر عليهم كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها وقال:( فمن رغب عن سنتي فليس مني ) .

وقد أقام الإسلام شريعته للإنسان على أساس تكوينه ذاك ؛ وأقام له عليها نظاما بشريا لا تدمر فيه طاقة واحدة من طاقات البشر . إنما قصارى هذا النظام أن يحقق التوازن بين هذه الطاقات ، لتعمل جميعها في غير طغيان ولا ضعف ولا اعتداء من إحداها على الأخرى . فكل اعتداء يقابله تعطيل . وكل طغيان يقابله تدمير "(17).

 

وسطية الإسلام في الأخلاق :

جاء الإسلام وسطا في أخلاقياته ، فلم ينظر إلى الإنسان باعتباره خيرا محضا أو شرا محضا ، أي لم يكن تعامله مع الإنسان على أنه ملك أو شيطان ... وإنما تعامل معه بما يتوافق مع أصل فطرته وطبيعة تكوينه ، فهو مخلوق مكلف مختار ، صالح للطاعة أو المعصية ، فيه الجانب المادي والجانب الروحي ، وسأضرب مثالا واحدا على ذلك :

إذا وقع اعتداء على إنسان ما ، فإن النصرانية مثلا تدعوه إلى الإفراط في التسامح والعفو ، وفي هذا يقول إنجيلهم : (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الخد الأيسر ) ويقول : ( أحبوا أعداءكم ، باركوا لاعنيكم ، أحسنوا إلى مبغضيكم ) ولا شك أنها نظرة مثالية محمودة ، ولكنها ليست متوازنة لأن الإنسان بطبيعته وفطرته يميل إلى الدفاع عن نفسه ورد الاعتداء الواقع عليه ، والانتقام ممن أهانه أو غض من كرامته ، فإذا وقع الاعتداء ، وطلب منه إلزاما أن يعفو ويصفح ، فلا شك أنه سيكبت غضبه وغيظه على كره ومضض ، وسيحاول التنفيس عن غضبه وغيظه حينما تسنح الفرصة المناسبة .

أما الإسلام ، فلأنه دين متوازن وواقعي ، فإنه سيأتي وسطا في هذه القضية ، بأن يراعي في النفس البشرية نوازع الرغبة في الانتقام والثأر ، فأباح للمعتدى عليه أن يرد الاعتداء بمثله فقط ، بحيث لا تنتقل المسألة من خانة رد الاعتداء إلى خانة التشفي والظلم ، يقول تعالى : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) ويقول سبحانه : ( جزاؤا سيئة سيئة مثلها .... )(18).

ولكن الإسلام وهو يبيح رد الاعتداء ، فإنه يرغب في العفو والتسامح ، أي أنه يطلب من المعتدى عليه أن يتسامى بغريزة رد الاعتداء إلى مستوى أعلى وأفق أرحب ..

ويتضح ذلك مما يلي :

(1) أطلق الإسلام على عملية رد الاعتداء ، صفة " الاعتداء " كما بينت الآية المذكورة آنــفا ( فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) وصــفة " السوء " كما قال في الآية الأخرى ( سيئة مثلها ) .. مع أن الأصل أن لا يطلق على رد الاعتداء صفة " الاعتداء " ولا على رد السيئة ولا على رد السيئة " سيئة " .. لكن هذا ـ في حقيقة الأمر ـ ترغيب في العفو والمسامحة من طرف خفي ، فالمسلم بطبيعته ينأى بنفسه بعيدا عن الاعتداء وعن السيئة ، فهو يؤثر العفو والتسامح .

(2) اشترط الإسلام تحقق " المثلية " في عملية رد الاعتداء ، وأكد عليها ، وحذر من تجاوزها .. وهذا أيضا في واقع الأمر دعوة إلى العفو والتسامح إذ أن المسلم الورع الذي يخشى الله ويراقبه ، يخاف أن لا يلتزم بهذه " المثلية " ويخاف أن تدفعه غزيرة الانتقام إلى رد الصاع صاعين ، والتشفي من غريمه .. لذا فإنه يؤثر السلامة ، ويجنح إلى العفو والتسامح .. خاصة وأن الله عز وجل قد استجاش فيه مشاعر  التقوى ، حينما قال في نهاية الآية الأولى ( واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ) (19).

(3) بين الإسلام أن العفو والتسامح هو المسلك الأولى والأجدر بالقبول ، وذلك في ختام الآية الثانية ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ) (20) .

(4) ثم يحث الإسلام على السمو إلى منزلة أعلى ومكانة أسمى ، وذلك حينما لا يكتفي بالترغيب في العفو ، وإنما يرغب في الإحسان إلى المسيء ، ومواجهة السيئة لا بسيئة مثلها وإنما بحسنة تزيل أسباب العداوة وتمحو دوافع البغضاء .. ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) ويقول سبحانه : ( ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ) (21)، ويقول جل شأنه : ( .. والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) (22)، ويقول ( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) (23)، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : " أمرني ربي بتسع أوصيكم بهن ـ وكان من بينها ـ وأن أعفو عمن ظلمني وأعطي من حرمني وأصل من قطعني ... "(24).

وبهذا أقام الإسلام التوازن في خلق المسلم ، فلا إفراط ولا تفريط ن ولا وكس ولا شطط .

 

وسطية الإسلام في التشريع :

والإسلام وسط كذلك في تشريعه ونظامه القانوني والاجتماعي .

فهو وسط في التحليل والتحريم بين اليهودية التي أسرفت في التحريم  ، وكثرت فيها المحرمات ، مما حرمه إسرائيل على نفسه ، ومما حرمه الله على اليهود ، جزاء بغيهم وظلمهم كما قال الله تعالى : " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ، وبصدهم عن سبيل الله كثيرا . وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل " (25).

وبين المسيحية التي أسرفت في الإباحة ، حتى أحلت الأشياء المنصوص على تحريمها في التوراة ، مع أن الإنجيل يعلن أن المسيح لم يجيء لينقض ناموس التوراة ، بل ليكمله . ومع هذا أعلن رجال المسيحية أن كل شيء طاهر للطاهرين !

فالإسلام قد أحل وحرم ، ولكنه لم يجعل التحليل ولا التحريم من حق بشر ، بل من حق الله وحده ، ولم يحرم إلا الخبيث الضار ، كما لم يحل إلا الطيب النافع . ولهذا كان من أوصاف الرسول عند أهل الكتاب أنه : " يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " (26) .

والتشريع الإسلامي وسط في شؤون الأسرة ، كما هو وسط في شئونه كلها . وسط يبن الذين شرعوا تعدد الزوجات بغير عدد ولا قيد ، وبين الذين رفضوه وأنكروه ولو اقتضته المصلحة وفرضته الضرورة والحاجة .

فقد شرع الإسلام هذا الزواج بشرط القدرة على الإحصان والإنفاق ، والثقة بالعدل بين الزوجتين ، فإن خاف ألا يعدل ، لزمه الاقتصاد على واحدة . كما قال الله تعالى : " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة "(27) .

وهو وسط في الطلاق بين الذين حرموا الطلاق ، لأي سبب كان ، ولو استحالت الحياة الزوجية إلى الجحيم لا يطاق ، كالكاثوليك ، وقريب منهم الذين حرموه إلا لعلة الزنا والخيانة  الزوجية كالأرثوذوكس .. وبين الذين أرخوا العنان في أمر الطلاق ، فلم يقيدوه بقيد ، أو شرط ، فمن طلب الطلاق من امرأة أو رجل كان أمره بيده ، وبذلك سهل هدم الحياة الزوجية بأوهى سبب ، وأصبح هذا الميثاق الغليظ أو هي من بيت العنكبوت .

إنما شرع الإسلام الطلاق ، عندما تفشل كل وسائل العلاج الأخرى ، ولا يجدي تحكيم ولا اصلاح . ومع هذا فهو أبغض الحلال إلى الله ، ويستطيع المطلق مرة ومرة أن يراجع مطلقته ويعيدها إلى حظيرة الزوجية من جديد  . كما قال تعالى : " الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح بإحسان (28) .

وبهذه النبذة المختصرة ، يتبين لنا مدى وسطية الإسلام وتوازنه في الجانب التشريعي .

وخلاصة القول : أن الوسطية تعد من خصائص تميز الأمة الإسلامية ، لازمت مسيرتها بمفهومها الشامل المرتكز على معنى الخيرية والعدالة ، واستمدتها من منهج الإسلام ونظامه ، وهو منهج الوسط والاعتدال والتوازن(29)، الذي اختاره الله شعارا مميزا لهذه الأمة التي هي اخر الأمم ، وللرسالة التي ختمت بها الرسالات ، فحملته بتوفيق الله ،وعن ذلك قال الشاطبي :(إن الحمل علي التوسط هو الموافق لقصد الشارع ، وهو الذي كان عليه السلف الصالح )(30) .   

 


(1) سورة آل عمران / 79 ، 80 .

(2) سورة البقرة / 142 .

(3) سورة البقرة / 91 .

(4) سورة التوبة / 31 .

(5) أخرجه الترمذي ، كتاب التفسير ، تفسير سورة التوبة ( 3095 )وقال ك هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب . وأخرجه أحمد ( 4 / 378 ) والطبري ( 14 / 212 )

(6) سورة المائدة / 1 .

(7) سورة مريم / 93 ــ 95 .

(8) سورة الأنعام / 148 .

(9) مجموع الفتاوى ( 3 / 370 ــ 375 ) .

(10) سورة الجمعة / 9 ، 10 .

(11) الخصائص العامة للإسلام ص 123 ، 124 .

(12) سورة القصص / 77 .

(13) أخرجه مسلم ، كتاب الذكر والدعاء ، باب في الأدعية ( 6903 ) .

(14) سورة البقرة / 201

(15) صحيح البخاري  ، كتاب النكاح ، باب الترغيب في النكاح : ( 5063 ).

(16) الوسطية في القرآن : (ص 494 ) .

(17) في ظلال القرآن : ( 4 / 2139 ) .

(18) سورة الشورى : جزء من الآية ( 40 ) .

(19) سورة البقرة : جزء من الآية ( 194 ) .

(20) سورة الشورى : جزء من الآية ( 40 ) .

(21) سورة فصلت : الآية ( 63 ) .

(22) سورة آل عمران : جزء من الآية ( 134 ) .

(23) سورة الشورى الآية : ( 43 ) .

(24) أخرجه

(25) سورة النساء :160 ، 161 .

(26) سورة الأعراف : 157 .

(27) سورة النساء : 3 .

(28) سورة البقرة : 229 .

(29) انظر : :الخصائص العامة للإسلا م :ص 127 -186 

(30) الشاطبي:الموافقات  4/258



بحث عن بحث