شبهات حول دراسة الأسانيد والجرح والتعديل (4)

 

لقد وُجد مع الأسف الشديد فيمن ينتسب إلى الإسلام من ردد أقوال المستشرقين فيما يتعلق بالإسناد ومدى الحاجة إليه، حتى وصف بعضهم أهل الحديث بأنهم «عبيد الأسانيد»، و«أسرى الأسانيد»، وأن الإسناد نوع من التزمت، وأن المبالغة في الاعتداد به، وربط الأحكام الشرعية به، واعتباره بالدرجة الأولى أساسًا لصحة الحديث، قد أثمر افتراقًا كبيرًا بين المسلمين، وحولهم إلى فرق وأحزاب يعارض بعضها بعضًا، ويقاتل بعضها بعضًا، ويكيد بعضها لبعض على مر السنين.

وقبل مناقشة هذه المزاعم لا بد من التنبيه على أن من الأسباب التي جعلت المستشرقين يتوصلون إلى هذه النتيجة في حكمهم على الأحاديث النبوية، أنهم لم يجروا دراستهم على كتب الحديث المعتمدة التي عنيت بذكر الأسانيد وعولت عليها، بل اختاروا الكتب التي تكون دراستها للحديث غير مقصودة لذاتها ككتب السيرة والفقه مثلًا، فـ«شاخت» عندما أصدر حكمه هذا على الأسانيد أصدره بناء على دراسة قام بها لكتاب «الموطأ» للإمام مالك، و«الموطأ» للإمام محمد الشيباني، وكتاب «الأم» للشافعي، ومن المعلوم أن هذه الكتب أقرب ما تكون إلى الفقه من كتب الحديث، وعلى الرغم من ذلك فقد عمم نتيجته التي توصل إليها في دراسته لتلك الكتب، وفرضها على كافة كتب الحديث، وكأنه ليس هناك كتب خاصة بالحديث النبوي، وكأنه ليس هناك فرق بين طبيعة كتب الفقه وكتب الحديث.

فقد يحذف الفقهاء جزءًا من الإسناد اكتفاءً بأقل قدر ممكن من المتن الذي يدل على الشاهد والمقصود وذلك تجنبًا للتطويل، وقد يحذفون الإسناد بكامله، وينقلون مباشرة عن المصدر الأعلى، وقد يستعملون الإسناد أحيانًا، ويقطعونه أحيانًا.

وبهذا يتبين بأن كتب السيرة وكتب الفقه ليست مكانًا صحيحًا لدراسة ظاهرة الأسانيد ونشأتها وتطورها.

وأما ما يتعلق بتفنيد هذه المزاعم فمن المعلوم لدى كل منصف أنه لم يلق علم من العلوم الإسلامية في جميع جوانبه وفروعه ما لقيه علم الحديث من العناية والاهتمام، وما هذه القواعد في هذا الكتاب إلا دليل على اهتمامهم وسيرهم وفق منهج علمي بالغ الدقة.

فهل بعد هذا كله يقال: إن الأسانيد لم تجد أدنى اعتناء، وأنها كانت أمرًا اعتباطيًا بحيث يتسنى لمن شاء أن يختلق إسنادًا وينسبه إلى من يريد لينصر مذهبه أو طائفته أو حزبه- كما يقول المستشرقون وأذنابهم – من غير أن يميز ذلك أئمة هذا الشأن الذين خصهم الله لحفظ دينه وحراسة سنة نبيه، سبحانك هذا بهتان عظيم(1).

بقي أن نقول ونحن نختم هذه القاعدة أن قضية الشبهات تتطور في كل عصر لكن أصولها واحدة، وما أشير إليها هنا هو الإشارة قضية الإسناد فقط، وإلا فموضوع الشبهات يزيد على هذا بكثير.

حمى الله سنة نبيه صلى الله عليه وسلم من كيد الكائدين وشبهات الحاقدين وجهل الجاهلين إنه قريب مجيب .

___________________

(1)  للتفصيل ينظر:-

- موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية الأمن الصادق الأمين.

- المستشرقون والحديث النبوي. د. محمد بهاء الدين.

- بحوث في تاريخ السنة المشرقة. د. أكرم ضياء العمري.

- الدفاع عن السنة مصطفى السباعي.

 



بحث عن بحث