ثالثا: تأسيس المنهج العلمي للرواية:

  لم تقتصر العناية بالسنة في العصر النبوي علي الصيانة والحفظ، ولا علي الذيوع والانتشار، بل أسس المنهج العلمي للرواية: تحملا وأداء، وقد وضع أسس هذا المنهج ورسخ معالمه القرآن الكريم والسنة المطهرة، وتتلخص هذه الأسس في الآتي:

 

أولا:تحريم الكذب.

 إن تحريم الكذب يعني فرض الأمانة العلمية من ناحية، وتحريم الخيانة العلمية من ناحية أخري

، ولخطورة الكذب في الرواية جاءت النصوص ظاهرة في الزجر عنه وتغليظ حرمته، حتي إنه جعل من صفات الكافرين والمنافقين، قال الله تعالي: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ....)(1)، وقال تعالي: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(2).

 وروي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)(3).

 وحذر رسول الله صلي عليه وسلم من الكذب عليه خاصة، وتوعد الكاذب عليه بمقعد من النار، فقال صلي الله عليه وسلم: (إن كذبا علي ليس ككذب علي أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)(4).

 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (مـن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)(5).

 فهذه الأحاديث تقرر تحـريم الكذب علي النبي صلي الله عليه وسلم، وأنه فاحشـة عظيمة، وموبقة كبيرة، وذلك لعظم مفسدته، فإنه يصير شرعا مستمرا إلي يوم القيامة، بخلاف الكذب علي غيره والشهادة، فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة، ولذا ناسب أن تكون عقوبة الكاذب فيه أغلظ وأبلغ، حماية لحياض الشريعة واحتياطا لسنة صاحبها عليه الصلاة والسلام.

 والمقصود من هذا: أن تغليظ الكذب علي رسول الله صلي الله عليه وسلم وتشديد عقوبته يعد الأساس الأول والعامل القوي الذي كان يدفع المسلمين إلي تحري الصدق فـي رواية الحديث وتحاشي الكذب علي رسول الله صلي الله عليه وسلم خوفا من الوقوع في هذا الوعيد، ولذا كانوا يجتهدون في حفظ الحديث وضبط ألفاظه، ولا يقدمون علي روايته إلا إذا كانوا متأكدين من صحة ما يقولون، وكان كثير منهم يتحاشي كثرة الرواية خوفا من ذلك.

 روي البخاري ومسلم في صحيحيهما عن انس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا: أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار)(6).

 وروي البخاري عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: قلت للزبير: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان، قال: أما إني لم أفارقه ولكن سمعته يقول: (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)(7).

 وبناء علي هذا قرر كثير من العلماء أن من كذب علي رسول الله صلي الله عليه وسلم عمدا في حديث واحد فسق وردت رواياته كلها، وبطل الاحتجاج بها جميعها، حتي لو تاب وحسنت توبته، لا فرق في ذلك بين ما يتعلق منها بالأحكام وما لا يتعلق بها كالترغيب والترهيب والمواعظ.

 هذا هو الأصل الأول من الأصول العديدة التـي هيأها الإسلام لحماية السنة ونقلها نقلا صحيحا دونما زيادة أو تحريف.


 

(1)     سورة النحل / 105.
(2)     سورة الأعراف / 33.
(3)     صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب علامات المنافق (33)، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب خصال المنافق (211).
(4)     أخرجه مسلم، المقدمة (5) ط: دار السلام.
(5)     أخرجه مسلم، المقدمة (4).
(6)     صحيح البخاري، كتاب العلم، باب إثم من كذب علي النبي صلي الله عليه وسلم (108)، وصحيح مسلم، المقدمة (3).
(7)     صحيح البخاري، الكتاب والباب السابقين (107).



بحث عن بحث