الوقفة الثالثة عشرة

محظـورات الإحــرام

وفي هذه الوقفة نواصل الحديث عما يتعلق بالإحرام، ذلكم أنه إذا دخل في النسك حظرت عليه محظورات الإحرام والأصل فيها ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهم أن رجلًا رضي الله عنه أل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعليه فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسه الزعفران ولا الروس» وزاد في رواية: «ولا تتنقب المرأة ولا تلبس القفازين»، فمن هذا الحديث وغيره يتبين أن المحرم يحرم عليه عدة أمور هي:

الأول: حلق الشعر فلا يجوز للمحرم أن يحلق شعره من جميع بدنه بلا عذر، والعذر مرض أو قروح أو صداع وغيره مما يتضرر به إجماعًا والقص والقلع والنتف كالحلق، وذلك لقوله تعالى: âوَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُá [البقرة: 196]، أي مكانه الذي يجب أن يذبح فيه.

الثاني: تقليم الأظافر أو قصها، فالتقليم يحصل به الرفاهية فأشبه إزالة الشعر، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظافره وسواء كانت هذه الأظافر في اليدين أو الرجلين إذا كان بغير عذر.

وما ينبه له هنا أنه إذا أزال شعرًا أو قلم أظافرًا بعذر فإنه يسلم من الإثم ولكن عليه الفدية، وذلك لقوله تعالى: âفَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍá [البقرة: 196]، ولحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه  أنه قال: كان بي أذى من رأسي فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: «ما كنت أرى الجهد يبلغ بك ما أرى’ تجد شاة؟» قلت: لا فنزلت: âفَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍá، قال: (هو صوم ثلاثة أيام أو إطعام رضي الله عنه تة مساكين، نصف صاع طعامًا لكل مسكين أو ذبح شاة) متفق عليه، والفدية هنا على التخيير وليست على الترتيب.

ومما ينبغي علمه هنا أن يجوز للمحرم أن يغسل شعره وأن ينظف جسده بالماء كما يجوز بصابون أو نحوه، ومما يخطئ فيه بعض الناس هنا أنه يترك جسده وشعره متسخًا بحجة أنه لا يجوز ذلك خشية أن يسقط شعر وهذا غير صحيح فله أن ينظف كما له أيضًا أن يحك شعر رأسه أو جزاءًا من جسده إذا تطلب ذلك حكًا عاديًا وإن رضي الله عنه قط شعر منه فلا يضر إن شاء الله.

كما يجوز للمرأة أن تمشط شعر رأسها لكن يكون بلطف ورفق لئلا يتساقط شيء من شعرها يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (يجوز للمحرم أن يمشط رأسه ولا دليل من كتاب ولا رضي الله عنه نة ولا إجماع على منعه من ذلك ولا تحريمه وليس في ذلك ما يحرم على المحرم تسريح شعره فإن أمن من تقطيع الشعر لم يمنع من تسريح رأسه).

الثالث: تغطية الرأس بملاصق بالنسبة للرجل إجماعًا وذلك لنهيه صلى الله عليه وسلم عن لبس العمائم والبرانس كما رضي الله عنه بق في الحديث وسواء كانت هذه التغطية بما هو معتاد كالطاقية أو الغترة أو العمامة أو غير معتاد كقرطاس ونحوه لكن إن كانت التغطية بغير ملاصق كمن يستظل بالخيمة أو بالسيارة راكبًا أو بيت أو مظلة يستظل بها عن الشمس أو شجرة وكذا إن حمل على رأسه حملًا لا لقصد التغطية وإنما ليحمله وينتقل  به من مكان إلى آخر فكل ذلك لا بأس به إن شاء الله لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى عرفة وجد الخيمة قد ضربت له فنزل بها، لكن من غطى رأسه بما هو ملاصق فعليه الفدية التي ذكرناها رضي الله عنه ابقًا في حلق الرأس وتقليم الأظافر.

أما بالنسبة للمرأة فلها أن تغطي رأسها بل يجب عليها إن كانت بحضرة رجال أجانب عنها وهذا مما تفترق فيه المرأة عن الرجل لأنها مأمورة بالستر والحجاب.

الرابع: لبس المخيط للذكر في بدنه أو بعضه بما عمل على قدره إجماعًا قل أو كثر رضي الله عنه واء كان ثوبًا أو رضي الله عنه روالًا أو قميصًا ونحوه وذلك للحديث السابق ذكره في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يلبس القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل».

أما المرأة فلها أن تلبس المخيط لكن تجتنب البرقع والنقاب وما في معناها كما لا تلبس القفازين وهما شراب اليدين، أما الخفان أو شراب الرجلين فلها ذلك بل يحسن لكي تغطيهما وما يلاحظ هنا أن بعض الناس يظن أن كل مخيط يحرم بالإحرام والصواب أن المحظور في الإحرام ليس ذات المخيط وإنما اللباس المعتاد وهو كل ما عمل على قدر العضو كلباس معتاد، أما مجرد المخيط كما إذا وجد بالإزار أو الرداء أو النعلين فلا يضر، ومما ينبه له في هذا المقام أن البعض يظن أنه لا يجوز ربط الإزار بالحزام أو بالهميان وهو ما يسمى بـ (الكمر) والصواب أنه يجوز ذلك إن شاء الله إذا كان لحاجة كأن يضع فيه نقوده أو أوراقه التي يحتاجها في رضي الله عنه فره ونحو ذلك أما الرداء فلا يحتاج إلى ربط بالمشابك وغيرها فعلى المحرم اجتناب ذلك.

كما أنه لا يجوز للرجل لبس الجوارب ونحوها إلا أن لا يجد نعلين فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين كما هو نص الحديث السابق.

ومما ينبه له أيضًا أن لبس الإزار الذي يكون محاطًا بمغاط فيكون مغلقًا من جميع الجوانب فهذا مما اختلف فيه العلماء المعاصرون فمن ألحقه بالمخيط منعه، ومن رأى أنه ليس لباسًا معتادًا أجازه، والأولى تركه بعدًا عن الخلاف.

الخامس: الطيب، فلا يجوز للمحرم ذكرًا كان أو أنثى أن يتطيب أو يمس شيئًا من الطيب ثوبه أو بدنه إجماعًا لأنه صلى الله عليه وسلم أمر يعلى بن أمية بغسل الطيب، وقال صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته راحلته «ولا تحنطوه» متفق عليه، وفي رواية لمسلم: «ولا تمسوه بطيب»، والحكمة من ذلك –والله أعلم- أنه يبعد عن الترفه وزينة الدنيا وملاذها، ويجمع همه لمقاصد الآخرة، ولكونه من أسباب دواعي القرب من النساء.

كما نص بعض الفقهاء رحمهم الله أن لا يستعمله المحرم في أكل أو شرب يظهر في طعمه أو ريحه ولو مطبوخًا أو مسته النار، لكن إن ذهب الطعم والريح ولم يبق رضي الله عنه وى اللون فلا بأس بذلك.

والطيب يشمل جميع العطورات السائلة وغيرها كالبخور والدهونات ولو مازجت موادًا أخرى، كما يجوز له أن يشم ماله رائحة طيبة كالشيح والخزامى ونحوهما أو أن يدهن بدهن غير مطيب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله فيما رواه أحمد والترمذي.

السادس: قتل صيد البر واصطياده، وذبحه فإن فعل المحرم ذلك فعليه جزاؤه إجماعًا لقوله تعالى: âلَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ á[المائدة : 95]، أي: محرمون بالحج أو العمرة، ولقوله رضي الله عنه بحانه: âوَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا á [المائدة: 96]، كما لا يجوز للمحرم أن يدل عليه غيره أو يشير إليه أو يعينه أو يعيره آله ليقتله ونحو ذلك لأن هذا وسيلة إلى الحرام فكان حرامًا، أما صيد البحر فإنه لا يحرم إن لم يكن بالحرم إجماعًا لقوله تعالى: âأُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ á[المائدة: 96].

أما الحيوانات المؤذية أو الحشرات الضارة ونحوها كالحية والعقرب والزنبور والبعوض والفأرة فهذه يجوز قتلها واستحبه بعض أهل العلم لأنها مؤذية ولا جزاء في قتلها.

السابع: عقد النكاح للمحرم فليس له أن يعقد النكاح، فلو تزوج المحرم، أو زوج محرمة أو غير محرمة، أو كان وليًا في النكاح فيحرم عليه ولا يصح النكاح لما رواه مسلم في صحيحه عن عثمان رضي الله عنهما مرفوعًا: «لا ينكح المحرم ولا ينكح»، أي لا يعقد لنفسه ولا يتولى العقد لغيره، وفي رواية: «ولا يخطب».

الثامن: الوطء ودواعيه، قال الفقهاء رحمهم الله: وإن جامع المحرم بأن غيب حشفته الأصلية في قبل أو دبر من حي أو غيره حرم، وكما يحرم الوطء تحرم مقدماته ولا يتمتع بقبلة ولا مباشرة ولا نظر بشهوة، لقوله رضي الله عنه بحانه وتعالى: âالْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ á [البقرة: 197]، قال ابن عباس: الرفث: الجماع، والحكمة من ذلك والله أعلم أن يبعد عن ملاذ الدنيا وشهواتها ويجمع همه لمقاصد الآخرة.

وذكر أهل العلم أن من وطء أثناء الحج فعليه الجزاء، فإن كان الوطء قبل التحلل الأول ولو بعد الوقوف بعرفة فسد النسك، ولا فرق بين العامد والساهي في قول جمهور أهل العلم ومع فساد النسك عليهما المضي في إتمامه كما أثر ذلك عن عمر وعلى وأبي هريرة وآخرين رضي الله عنهم فلا يخرجان من الحج بسبب الوطء بل عليهما الاستمرار لقوله تعالى: âوَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ á، وعليهما أيضًا القضاء وجوبًا في العام الذي يليه لما روي ذلك عن ابن عباس وابن عمروا رضي الله عنهم.

وعلى الواطئ أيضًا بدنة لقول ابن عباس رضي الله عنهما أهدى ناقة.

أما الوطء بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني فإن الواطئ يكون قد ارتكب محظورًا لكنه لا يفسد حجه، وعليه شاة لفعله المحظور في الإحرام.

التاسع: المباشرة دون الفرج فلا يجوز للمحرم أن يباشر فيما دون الفرج، ولو بتقبيل أو لمس أو نظر بشهوة وفاقًا.

فإن فعل المحرم فباشر زوجته فأنزل لم يفسد حجه لكن عليه بدنة إن أنزل بمباشرة أو قبلة أو تكرار نظر أو لمس لشهوة أو أمنى باستمناء وهناك قول آخر أن عليه شاة وليس عليه بدنة.

ومن فعل ذلك كله ولم ينزل فعليه فدية الأذى أي التخيير بين الإطعام وذبح شاو أو صيام ثلاثة أيام كما رضي الله عنه بق فيمن حلق شعره أو قلم أظافره، والمرأة في المباشرة كالرجل إلا المكرهة فلا شيء عليها.

فتخلص مما رضي الله عنه بق عدة أمور:

1- أن على الحاج أو المعتمر محظورات يجب أن يتجنبها –كما عرفناها-.

2- أن من فعل هذه المحظورات متعمدًا فعليه الإثم والفدية على كل محظور بحسبه –كما رضي الله عنه بق- وعليه التوبة والاستغفار.

3- أما الناسي والجاهل فالذي يظهر والله أعلم أنه ليس عليهما شيء إلا في مسألة الجماع فإن الخلاف قوي وجمهور أهل العلم يرون أن عليه الجزاءات التي ذكرت والله أعلم.

ومما ينبه له أن المرأة يباح لها التحلي بما شاءت من الحلي، ولكن لا تبرزه للرجال لترى زينتها، كما يباح لها الخضاب بالحناء عند الإحرام ويكره بعده، كما يباح الاكتحال لكن لا يكون من أجل الزينة.



بحث عن بحث