الضابط الثاني: الأكثر مفسدة أولى بالدرء من الأقل مفسدة:

إذا تزاحمت مفسدتان أو سيئتان بتعبير شيخ الإسلام ابن تيمية، ارتكب أخفهما بدفع أشدهما، وهذا الدرء للمفسدة الكبيرة باحتمال الصغيرة – كما يقول العز بن عبد السلام – طبيعة بشرية لذا فقد اعتبر التشريع الإلهي هذه الطبيعة البشرية في كثير من أحكامه، ومن الأدلة على ذلك:

أ- قال تعالى في شأن القتال في الأشهر الحرم مبينًا أن القتال فيها أقل مفسدة من الصد عن سبيل الله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217].

فقد أنكر الكفار على المسلمين استباحة الأشهر الحرم والقتال فيها، فرد الله عليهم قائلًا: نعم القتال فيها كبير الإثم والجرم، ولكن الاعتداء على المسلمين والإسلام بالصد عن سبيل الله وقتل المسلمين وفتنتهم في دينهم وإخراجهم من ديارهم، كل هذا وغيره أعظم مفسدة وأكبر جرمًا عند الله من انتهاك حرمة الأشهر الحرم بالقتال فيها، وإذا كان كذلك فإن القتال فيها ضروري وواجب لدرء هذه المفاسد الكبيرة.

ب- وقال سبحانه حكاية عن الخضر مع موسى عليهما السلام: ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ﴾، إلى قوله: ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 79 – 82].

فدفع مفسدة غصب الملك السفن بمفسدة أخف، وهي خرق السفينة، واحتمل مفسدة قتل الولد ليدفع مفسدة إرهاق والديه طغيانًا وكفرًا التي هي أعظم واشد من قتله.

وأما من السنة، فمنها:

أ- ما أخرجه مسلم عن أم سلمة ك قالت: إن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال: «إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع»، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا ما صلوا»، قال ابن القيم في تعليقه على هذا الحديث: «إن النبي  صلى الله عليه وسلم  شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، لا يسوغ إنكاره، وإن الله يبغضه، ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته، فتولد ما هو أكبر منه، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه، كما وجد سواء».

ب- وعن أبي هريرة رضي الله عنه  قال: قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم  صلى الله عليه وسلم : «دعوه وهريقوا على بوله سجلًا من ماء - أو ذنوبًا من ماء- فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين».

إن بول الأعرابي مفسدة لكنها أخف مما قد يصيبه من مرض بسبب قطع بوله، لهذا قال الإمام النووي معلقًا على هذا الحديث: (فيه دفع أعظم الضرر باحتمال أخفهما لقوله  صلى الله عليه وسلم : «دعوه» لمصلحتين:

إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله لتضرر وأصل التنجس قد حصل، فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به.

والثانية: أن التنجس قد حصل في جزء يسير من المسجد، فلو أقاموه أثناء بوله لتنجست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد).

وباستقراء هذه الأحكام وغيرها توصل علماء الشريعة إلى صياغة القاعدة التالية: «إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمها ضررًا بارتكاب أخفهما» وتفيد هذه القاعدة القطعية أنه إذ اجتمعت مفسدتان دفعت دفعت العليا بالتزام الدنيا «لأن مباشرة الحرام لا تجوز إلا للضرورة، ولا ضرورة في حق الزيادة» بل «الضرر لا يزال بمثله» وما بالك بما فوقه، وإذا كان «الضرر يزال» بما دونه، فإن هذا الدون من المفسدة المرتكب في هذه الحالة معفو عنه باعتباره حالة اضطرارية يرتفع معها الإثم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمها إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرمًا في الحقيقة ... حتى وإن سمى هذا الفعل محرم... ويقال في مثل هذا... فعَل محرَّم للمصلحة الراجحة أو للضرورة أو لدفع ما هو حرام» بل ما ارتكبه من المفسدة يعتبر مصلحة من حيث إنها تدفع مفسدة أكبر ما كانت تدفع لولا ارتكاب المفسدة الصغرى.

ومن الأمثلة التي ذكرها ابن القيم لهذا الضابط:

أنك إذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب، أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك فكان ما هم فيه شاغلًا لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلًا بكتب المجون ونحوها، وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال، والسحرة فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع.

ومن أمثلة تطبيق هذه القاعدة في المجال الدعوي ما يلي:

عند إنكار المنكر، فلو أنكرت على الأبناء في البيت تقصيرًا في صلاة الجماعة، أو عمل محظور شرعي، ثم أدى بهم هذا الإنكار إلى أن يخرجوا من البيت ويختلطوا بالفساق، فتركهم على ما هم فيه أولى من الإنكار، وكما يطبق هذا على الأولاد في البيت يطبق في المجتمع بعامة كما أشار ابن القيم.



بحث عن بحث