آثار الدعاء على النفس والمجتمع

سادسًا: الدعاء مفزع للمظلومين:

الدعاء هو البوابة التي يقبل منها العبد إلى الله تعالى دون وسيط، وهو الملاذ الذي يلجأ إليه الضعفاء والمظلومون، الذين لا يملكون من الأمر شيئًا أمام جبروت الظالمين والمعتدين، فحين يقع الإنسان تحت وطأة الظلم وثقل أغلاله، فلا يجد بدًّا بالدعاء إلى من هو أقوى منهم وأقدر عليهم.

وقد ذكر القرآن الكريم الأنبياء والرسل عليهم السلام ومعاناتهم مع أقوامهم، والظلم الذي كان يلحق بهم أثناء دعوتهم إلى الله، فكانوا لا يستسلمون لليأس والفشل وإنما يلجؤون إلى الله تعالى بالدعاء وطلب النصرة.

فقد دعا نوح ربه حين كذّبه قومه واتهموه بالجنون قال تعالى:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ . فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}(1).

ودعا موسى عليه السلام حين توجه إلى مدين هاربًا من بطش فرعون، قال تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}(2).

كما دعا يوسف عليه السلام حين ظلم وزُجَّ به في غياهب السجن، قال تعالى على لسانه:{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}(3).

واستجاب الله تعالى تلك الدعوات، لأنها خرجت من نفوس مظلومة لا حول لها ولا قوة، ولأن الله عدل لا يحب الظلم لنفسه ولا يحبها بين عباده، وقد حذّر عليه الصلاة والسلام أمته من اقتراف هذا الذنب العظيم، وأخبر أن دعوة المظلوم مستجابة عند الله، فقد وصّى معاذًا حين بعثه إلى اليمن قائلاً: «اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب«(4).

وهنا أوجّه رسالتين للظالم والمظلوم:

- فأما رسالة الظالم: فأذكّره بالعاقبة الوخيمة التي تترتب على ظلمه لنفسه في التقصير بالعبادات وأداء الفرائض واقتراف المعاصي وغيرها، وعلى ظلمه للناس في التعدي عليهم وعلى حقوقهم وأموالهم وأنفسهم، فأذكره بما تؤول إليه حاله حين يقابل ربه في يوم لا مفر منه، يقول الحق جل جلاله:{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ۖ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا}(5).

فقد حرّم الله تعالى الظلم على نفسه كما جاء في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا»(6). كما قال عليه الصلاة والسلام: «الظلم ظلمات يوم القيامة«(7).

وأقول كما قال الشاعر:

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا *** فالظلم آخره يأتيك بالندم

نامت عيونك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين الله لم تنم

ولا ينفع الندم بعد أن تقع العقوبة، فربما تكون عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة، يقول تبارك وتعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(8).

كما تجدر الإشارة هنا إلى أن من أعان على ظلم فهو شريك معه، ومن حابى الظالمين وأقرّهم على ظلمهم فإنهم يعرضون أنفسهم للعذاب والعقاب، يقول تبارك وتعالى:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}(9).

وهذا المشهد كاف للقيام بمراجعة صريحة للنفس وإنابة صادقة إلى الله تعالى، قبل أن يحلّ الأجل وينتهي العمل، وباب التوبة مفتوح لا يغلق لقوله ﷺ: «إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها«(10).

- وأما رسالة المظلوم: فأذكّره بقول السحرة لفرعون حين تمكّن اليقين من قلوبهم وآمنوا بنبوة موسى عليه السلام، وعرفوا حقيقة الحياة:{فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}(11).

فالدنيا دار عمل والآخرة دار حساب، والكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، وإن أكبر فوز ونجاة حين يودّع الإنسان هذه الحياة ولا يحمل في صحيفته حقوق الناس ومظالمهم، فينال عند ربه الأمن والسلامة في جناته، يقول تبارك وتعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}(12).

ولا يأخذ المظلوم شطط في التفكير أو يستسلم لليأس من ضيق حاله وشدة مظلمته، فإن الله تعالى يسمع ويرى، وهو ليس بغافل عما يعمل الظالمون في أرضه، وإنما يؤخرهم لحكمة من عنده جلّ وعلا، يقول تبارك وتعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}(13).

وخير زاد يتزود به المظلوم تقوى الله تعالى والصبر والثبات، لأن الله سيجازيه خيرًا في الدنيا بالفرج وقصم الظالم وحلول النعم، وثوابًا وجزاء في الآخرة التي هي أوفى وأبقى، يقول تبارك وتعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}(14)، ويقول:{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(15).

*     *     *

وفي الختام:

فإن الدعاء عبادة عظيمة، وسنة من سنن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أوجبها الله تعالى على عباده وأحبّها لنفسه، فإنه تعالى يحب أن يسمع دعاء عبده وتضرعه إليه، يقول عليه الصلاة والسلام: «سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل«(16).

فلا يجوز إهمال الدعاء وفصله عن الحياة والحركة اليومية للإنسان سواء داخل بيته مع أفراد أسرته، أو خارجها مع أبناء مجتمعه في المؤسسة أو المدرسة أو المستشفى أو المتجر والمصنع أو في الشارع، حتى يؤدي رسالته في الحياة بنجاح وتفوّق وينشر الخير والسعادة على ظهر الأرض.

كما لا يجوز الاستهانة بدعاء أحد واستصغار أمره، مهما كانت حاله، فقيرًا كان أو غنيًا، أبيض أو أسود، صغيرًا أو كبيرًا، فالله تعالى قريب من الجميع ويسمع الجميع، وهو القائل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(17).

وصدق الشافعي حين قال:

أتهزأ بالدعاء وتزدريه *** وما تدري بما صنع الدعاء

سهام الليل لا تخطي ولكن *** له أمد وللأمد انقضاء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [القمر: 9-10]

(2) [القصص: 22]

(3) [يوسف: 33]

(4) سبق تخريجه.

(5) [طه: 111]

(6) أخرجه مسلم (ص1128، رقم 2577) كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم.

(7) أخرجه البخاري (ص395، رقم 2447) كتاب المظالم، باب الظلم ظلمات يوم القيامة. ومسلم (ص1129، رقم 2578) كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم.

(8) [الأنفال: 25]

(9) [هود: 113]

(10) سبق تخريجه.

(11) [طه: 72]

(12) [الأنعام: 82]

(13) [إبراهيم: 42]

(14) [الزمر: 10]

(15) [النحل: 41]

(16) أخرجه الترمذي (ص3571، رقم 813) كتاب الدعوات، باب انتظار الفرج وغيره. والحديث إسناده ضعيف، لكن معناه صحيح.

(17) [البقرة: 186]



بحث عن بحث