النمو الإيماني مع المنع والعطاء
ومع انعكاس النمو الإيماني على وضوح الرؤية لآيات الله المختلفة ، فإنه أيضًا ينعكس على طريقة استقبال العبد لها ، وتعامله معها ، فتجده يربط النعم التي تَرِد عليه بالله المنعم ، ويفرح بفضله – سبحانه – ويستكثر على نفسه هذا الفضل ، ومن ثَمَّ تهيج مشاعر الامتنان لله عز وجل في قلبه ليعيش حالة القلب الشاكر .
وفي أوقات المحن والبلايا تجده – وإن تضايق قليلًا في البداية – إلَّا أنه سرعان ما يعود به إيمانه إلى الصبر وعدم الجزع أو التَسخُّط ، بل ومن المتوقع - مع استمرار النمو الإيماني – أن يعيش المرء في حالة الرضا عن الله ، فيسكن قلبه مهما تقلَّبت به الأحداث .
وباستمرار النمو الإيماني يزداد فهم العبد لأحداث الحياة وتقلباتها وبخاصة المؤلمة منها لتتحول كلها في نظره إلى عطاء من الله عز وجل ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ) [التوبة : 51] .
ومما يلزم التنويه إليه أنه مهما ارتقى الإيمان في قلب العبد إلا أن بشريته – وما فيها من ضعف – لن تُفارقه ، لذلك فمن المتوقع أن تَزِلّ الأقدام في بعض الأمور القليلة والنادرة ، لكن داعي الإيمان سُرعان ما يدفع صاحبه للعودة السريعة والتوبة النصوح ، واستئناف السير إلى الله ( إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) [الأعراف : 201] .
النمو الإيماني والحالة القلبية :
كلما نما الإيمان وازداد نوره في القلب كلما أحس المرء بانشراح في صدره ، وتضاءلت أوقات شعوره بالضيق ، فإذا ما استمر النور في دخول القلب ازدادت مساحة الحياة فيه ، وشيئًا فشيئًا تُصبح مساحة الحياة في القلب أكبر وأكثر اتساعًا من غيرها ، فيحدث حدث هام ومادي يشعر به المرء في لحظة سعيدة من لحظات عمره ، ألا وهو شعوره بتحرك قلبه في صدره حركة سريعة ومضطربة ، وهذا ما يُسمى بولادة القلب الحي ، أو « الولادة الثانية » ، والتي يصفها أحد السلف بقوله : كنت ساجدًا في صلاة فجر يوم من الأيام ، وقُمت من السجود لكني شعُرت بأن قلبي لم يقُم من سجدته .. أي : حدث له خشوع وهبوط وشدة انجذاب إلى الأسفل ، وعندما قام البدن من السجود ظلَّ القلب كما هو ، ثم يعود بعد ذلك إلى حالته الطبيعية إلى أن تأتي لحظات أخرى في الصلاة أو الذكر أو الدعاء أو التفكر ، يتكرر فيها هذا الأمر بصورة لا إرادية .
وتفسير هذا الأمر أن القلب قبل ذلك يكون متعلقًا بأشياء تَحول بينه وبين العبودية الحقَّة لله عز وجل ، كالتعلق بالمال ، أو الناس أو المنصب ، أو العقار .. هذه الأشياء تكون بمثابة السجن الذي يعيش فيه العبد ، والوثاق الذي يُقيِّده ، فإذا ما نما الإيمان في قلبه ضعُفت تلك العلائق والأغلال ، حتى تأتي اللحظة السعيدة عندما تنقطع وتنفصل عن القلب ، فيصير حُرًّا منها ، مُتعلقًا بربه ، لذلك تجده يخشع ويهبط ويضطرب عند ذكر الله ، ودعائه ، والتضرع إليه ...
وفي هذا المعنى يقول ابن القيم : فللروح في هذا العالم نشأتان ، إحداهما : النشأة الطبيعية المشتركة ، والثانية : نشأة قلبية روحانية ، يُولد بها قلبه ، وينفصل عن مشيمة طبعه ، كما وُلد بدنه وانفصل عن مشيمة البطن .
وفي كتاب « الزهد » للإمام أحمد أن المسيح عليه السلام قال للحواريين : إنكم لن تلِجوا ملكوت السماوات والأرض حتى تُولدوا مرتين .
ويستطرد ابن القيم قائلًا : سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله – يقول : هي ولادة الأرواح والقلوب من الأبدان ، وخروجها من عالم الطبيعة ، كما وُلدت الأبدان من البدن ، وخرجت منه (1) .
وعندما تحدث – بإذن الله وفضله - تلك الولادة للقلب ، فإنه ينتقل إلى مرحلة جديدة من مراحل حياته ، وتظهر آثارها بوضوح في تفاعله مع الأحداث فيصبح قلبًا رقيقًا سريع التأثر بالمواعظ ، سريع الوجل والاضطراب عند ذكر الله ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) [الأنفال : 2] .. سريع الحضور والاستدعاء في الدعاء والذكر والفكر والصلاة وبخاصة عند تكبيرة الإحرام .
يشعر صاحبه بهبوطه وخشوعه كحالة من حالات التأثر والتجاوب مع قراءة القرآن أو الدعاء أو الذكر أو المناجاة ( وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) [الإسراء : 109] . وتزداد سرعة وقوة هذا التفاعل كلما زاد نور الإيمان فيه .
(1) مدارج السالكين لابن القيم ( 1/146 ) .