التربية الإيمانية(16)

 

الثمرة التاسعة : اتخاذ القرارات الصعبة

يتعرض المرء في حياته لمواقف تحتاج منه إلى اتخاذ قرارت قد ينتج عنها نقص يلحق به ، أو أذى يُصيبه ، أو ضيق الآخرين منه ، لذلك تجده مترددًا قبل اتخاذها ، ويظل يُفكِّر فيها ، ويوازن بين الواجب الديني الذي يحُثُّه على فعل الشيء وبين الأضرار التي قد تترتب على فعله ، مما قد يؤدي في النهاية إلى ترك القيام به ، فيُفوِّت على نفسه مصالح كثيرة في دنياه وآخرته .

هذا الحال يعكس ضَعف القلب وعدم تمكن الإيمان منه ، وفي المقابل ؛ كلما ازداد الإيمان قَوِي القلب وسهل على صاحبه اتخاذ القرارات التي قد يكون لها من الناحية الظاهرية تأثير سلبي عليه ..

ومن أمثلة هذه القرارات : الشهادة على النفس أو الآخرين ، الاعتراف بالخطأ ، قبول النُصح ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأصدقاء وأصحاب المناصب ، الإنفاق في وقت العُسرة ، التضحية بما يحبه المرء ..

 نماذج مشرقة : 

وإليك أخي القارئ بعض الأمثلة العملية من حياة الصحابة ، والتي تؤكد هذا المعنى :

 جلس عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّ بن سلول إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ماء ، فقال : بالله يا رسول الله ، ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها أَبِي ، لعل الله يُطهر بها قلبه . فأفْضَلَ له ، فأتاه بها ، فقال له أبوه : فهلَّا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها ، فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله أما أذِنْت لي في قتل أَبِي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « بل ترفق به وتُحسن إليه » (1).

- وقال عروة : رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عاتقه قربة ماء ، فقلت : يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك ذلك ، فقال : لمَّا أتتني الوفود بالسمع والطاعة دخلت في نفسي نخوة ، فأحببت أن أكسرها ، ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها (2) .

- عن أنس أن رجلًا من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، عائذ بك من الظلم ، قال : عذت معاذًا ، قال : سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته فحمل يضربني بالسوط ويقول :أنا ابن الأكرمين ، فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويُقدم ابنه معه ، فقدما ، فقال عمر : أين المصري ؟ خذ السوط فاضربه ، فجعل يضربه بالسوط ، وعمر يقول : اضرب ابن الأكرمين . قال أنس : فضرب ، فوالله ضربه ونحن نُحب ضربه فما أقلع عنه حتى تمنينا أن يُرفع عنه ، ثم قال عمر للمصري : ضع السوط على صلعة عمرو ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنما ابنه الذي ضربني ، وقد استقدت منه ، فقال عمر لعمرو : مُذ كم تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أُمهاتهم أحرارًا ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، لم أعلم ولم يأتني (3) .

- وعن ابن عمر قال : اشتريت إبلًا وارتجعتها إلى الحمى  فلما سمنت قدمت بها ، فدخل عمر السوق فرأي إبلًا سمانًا فقال : لمن هذه الإبل ؟ قيل لعبد الله بن عمر ، فجعل يقول : يا عبد الله بن عمر : بخ بخ ، ابن أمير المؤمنين ، فجئت أسعى ، فقلت : مالك يا أمير المؤمنين ؟ قال : ما هذه الإبل ؟ قلت : اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون ، فقال : ارعو إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين ، يا عبد الله بن عمر ، اغدُ إلى رأسِ مالك ، واجعل الفضل في بيت مال المسلمين (4) .

إسداء النصيحة :

بعد انتصارات خالد بن الوليد المتتالية في العراق بعث إليه أبو بكر الصديق برسالة تهنئة ونصيحة فقال فيها :

« فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة ، فأتمم يتم الله لك ، ولا يدخلنك عُجب فتخسر وتُخذل ، وإياك أن تدل بعمل فإن الله له المَنّ  وهو ولي الجزاء » .

وعندما أمَّر عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص على حرب العراق أرسل إليه وأوصاه فقال :

لا يغرنَّك من الله أن قِيل خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب رسول الله ، فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ  ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن ، فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا الطاعة ، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء ، الله ربهم وهم عباده ، يتفاضلون بالعاقبة ويدركون ما عنده بالطاعة ، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بُعث إلى أن فارقنا ، فالزمه فإنه الأمر  . هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك ، وكنت من الخاسرين (5).

الانتصاف من النفس :

 كان لعثمان بن عفان رضي الله عنه عبد ، فقال له : إني كنت عركت أُذنك فاقتص مني ، فأخذ بأذنه ثم قال عثمان رضي الله عنه : اشدد ، يا حبذا قصاص الدنيا ، لا قصاص الآخرة (6).

وعن إياس بن سلمة عن أبيه قال : مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السوق ومعه الدرة ، فخفقني بها خفقة فأصاب طرف ثوبي ، فقال : أمط عن الطريق . فلما كان في العام المُقبل لقيني فقال : يا سلمة ، تُريد الحج ؟ فقلت : نعم . فأخذ بيدي فانطلق بي إلى منزله فأعطاني ست مائة درهم وقال : استعن بها على حجِّك ، واعلم أنها بالخفقة التي خفقتك . قلت : يا أمير المؤمنين ما ذكرتها . قال : وأنا ما نسيتها(7).


(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 17/199، وأخرج بن أبي شيبة في مصنفه حديثا بمعناه (ج 3/ ص 538 حديث رقم: 6627).

(2) صلاح الأمة في علو الهمة للدكتور سيد حسين العفاني  (5/435 ).

(3) إسناده ضعيف: رواه ابن عبد الحكم في (فتوح مصر) ، كنز العمال ( 36010) .

(4) السنن الكبرى للبيهقي  (6 / 147، 12156) ، وأورده المتقي الهندي في كنز العمال (36006 ) .

(5) تاريخ الطبري (4/306) ، البداية والنهاية (7 / 42) ، الكامل في التاريخ لابن الأثير (1 / 408) ،  وحياة الصحابة ( 1/548 ) .

(6) حياة الصحابة 1/537 ، نقلًا عن « الرياض النضرة في مناقب العشرة » للمحب الطبري ( 2/111 ) .

(7) تاريخ الطبري - (2 / 578) ، وحياة الصحابة ( 1/536 ) .

 

 



بحث عن بحث