الأداة الثانية: فهم النص النبوي وفق الدلالة الشرعية ثم اللغوية ثمالعرفية.

اللفظ العربي وهو الذي يتكون منه النص الشرعي، قد يكون له دلالة شرعية أوسع أو أخص من الدلالة اللغوية فيؤخذ بذلك، وإن لم يكن فبدلالته اللغوية، فإن لم يكن فبدلالته العرفية.

ذلك أن الأسماء ثلاثة أنواع:

الأول: يعرف حده بالشرع مثل: الإيمان، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج.

الثاني: يعرف حده باللغة مثل: الشمس، القمر، الليل، النهار.

الثالث: يعرف حده بالعرف مثل: القبض.

والألفاظ الشرعية وإن كانت عربية في الأصل إلا أنه لابد من معرفة مراد الشارع الذي نقل تلك الألفاظ عن مدلولاتها الأصلية إلى معانٍ بينها وبين المعنى الأصلي نوع اشتراك فجنس ما دل عليه القرآن ليس من جنس ما يتخاطب به الناس، وإن كان بينهما قدر مشترك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم بمعان غيبية لم يكونوا يعرفونها، وأمرهم بأفعال لم يكونوا يعرفونها، فإذا عبر عنها بلغتهم كان بين معناه وبين معاني تلك الألفاظ قدر مشترك، ولم تكن مساوية بها، بل تلك الزيادة التي هي من خصائص النبوة لا تعرف إلا منه.

فالصلاة في أصل اللغة: الدعاء، فجاء الشرع مخصصا الصلاة بأقوال وأفعال وهيئات معينة.

والزكاة في أصل اللغة: النماء والزيادة، فجاء الشرع مخصصا معناها بما يدفع من حق معلوم لمستحقيه باعتبار ذلك الدفع طريقًا للنماء والزيادة.

والصوم في أصل اللغة: مطلق الإمساك، فجاء الشرع مخصصا معناه بالامتناع عن أشياء معينة في أوقات معينة.

والحج في أصل اللغة: القصد، فخص الشرع ذلك القصد بأنه القصد لبيت الله الحرام لأداء أعمال معينة.

فالشرع إذًا لم ينقل تلك الألفاظ ـ وغيرها ـ عن معانيها اللغوية بالكلية، ولم يبق عليها كما هي في أصل اللغة، بل خصصت تخصيصا شرعيًا ببعض مواردها كما أن عرف الناس يخصص بعض الألفاظ ببعض مواردها.

وإذا أعرض المرء عن هذا المنهج في فهم النصوص الشرعية ـ قرآنًا وسنة ـ فإنه يصير إلى أحد ثلاث طرق:

الطريق الأولى: أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير فيعدل عن الطريق التي فيها العلوم اليقينية، والأمور الإيمانية، ويبنى كلامه في التنزيل على الرأي المجرد، والعقل، والأهواء دون اعتبار للنصوص، وأقوال الصحابة والتابعين، وهذا الفعل متوعد عليه بالنار.

فعن ابن عباس م قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار».

الطريق الثانية: أن يأخذ بظواهر النصوص من غير تدبر، ولا نظر في مقاصدها ومعاقدها، فيبادر إلى تفسيرها بمجرد ظاهر اللغة، وفهم العربية، وبهذا يكثر الغلط في فهم النصوص الشرعية.

الطريق الثالثة: الأخذ بحرفية النص دون النظر إلى معانيه والمقصود منه النظر إلى سنة الشارع في الخطاب، وذلك بجمع النصوص والرجوع إليها في فهم المراد.

مثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسق وقتاله كفر» فإن الأخذ بحرفية قوله «كفر» تدل على أن المسلم المقاتل لأخيه المسلم يكفر، ولكن المراد ليس ذلك بل المراد الكفر غير المخرج من الملة، بدليل قول الله تعالى: âوَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواá [الحجرات: 10].

قال الإمام البخاري :: «فسماهم مؤمنين».

قال ابن حجر: (استدل المؤلف : على أن المؤمن إذا ارتكب معصية لا يكفر بأن الله تعالى أبقى عليه اسم المؤمن، فقال: «âوَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواá ثم قال: âفَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْá كما استدل أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما» فسماهما مسلمين مع التوعد بالنار»، فيكون المراد بقوله «كفر» ليس الكفر المخرج من الملة بل الكفر الأصغر غير المخرج من الملة، وقد أطلق على هذا الفعل اسم الكفر مبالغة في التحذير.

هذا: ومما لا شك فيه أن لمعرفة الدلالات اللغوية والشرعية مظانها المعلومة ككتب اللغة بعامة، وغريب الحديث بخاصة، وكذا الشروح الحديثية، والموسوعات وغيرها.

وبناء على ما سبق، فإنه من الخطأ الاستقلال بالفهم بناء على قدرة الإنسان الاستنباطية، وقوة ملكته دون الرجوع إلى المصادر والمظان اللغوية والشرعية.



بحث عن بحث