فتلخص مما سبق: أن العقل يقف عند النصوص التي تتحدث عن القضايا الغيبية، ويكون دوره التسليم بها وإثباتها كما جاءت مع إدراك معانيها.

فإذا جاء نص كريم فيه قضية من تلك القضايا: كالبعث يدرك أن تفسير ذلك أن الناس سيبعثون مرة أخرى، ويأتي الحشر والنشر، والحساب والجزاء لكن لا يخوض في كيفية ذلك لأنه لن يدرك مراده، ولن يصل إلى النتيجة، ومن ثمّ إما أن ينكرها، أو يؤولها، أو يقع في تناقضات لا يجد لها حلًا.

4- ومن العلاقة بين السُّنَّة والعقل أن الـمُستَنْكر في العقول السليمة لا يمكن أن يتفق مع السنة النبوية، ويظهر هذا الأمر بوضوح في مسألة: الحكم على بعض الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فترد لمخالفتها للعقول السليمة، وقد فصّل في هذه المسألة العلامة ابن القيم رحمه الله قال: [ومنها – أي من أمارات الحديث الموضوع – سماجة الحديث وكونه مما يسخر منه كحديث: «لو كان الأرز رجلًا لكان حليمًا، ما أكله جائع إلا أشبعه» فهذا من السمج البارد، الذي يصان عنه كلام العقلاء، فضلًا عن كلام سيّد الأنبياء وذكر جملة من الأحاديث.

وقال في موضع آخر: (ومنها أن يكون الحديث باطلًا في نفسه فيدل بطلانه على أنه ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كحديث... «إذا غضب الله أنزل الوحي بالفارسية، وإذا رضي أنزله بالعربية» وذكر جملة أحاديث أيضًا.

ومعنى ذلك أن هذه الأحاديث مخالفة للعقول فُردت بهذا السبب لا لأي سبب آخر فدل على أن العقل السليم يستدل به على الحكم على الحديث لكن لا بد أن يكون ذلك بأمارات وعلامات واضحة جليّة وليست لمجرد عدم الإدراك أو ضعفه لأن الاسترسال في تطبيق هذه القاعدة بإطلاق يجر إلى الطرف الآخر فتحكم العقول المجردة بجميع الأحاديث، وهذا باطل. والمسألة دقيقة ومهمة فهي ليست لكل أحد وإنما للعالم المجتهد المدرك لقواعد التصحيح والتضعيف، والقبول والرد.

5- ومن معالم العلاقة أن السنة النبوية جاءت بكثير من الأحكام المختلفة في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والجنايات والأوقاف والمواريث وغيرها، وهذا الأحكام لها عِلل وحِكم في تشريعها بينت السنة كثيرًا منها، وكثير لم يبين ولذلك اجتهد أهل العلم رحمهم الله تعالى في استنباط ما يمكن استنباطه.

فأما علل الأحكام فما كان مبينًا منها يؤخذ به، وأما ما لم يبين فإما أن يكون في العبادات، أو في الغيبيات فهذا يبقى توقيفيًا بمعنى أن مهما بحث المجتهد لا يمكن أن يصل إلى العلة المرادة مثل علة كون الصلوات خمس صلوات، ومثلها أعداد ركعاتها أو علة عذاب القبر ونحو ذلك.

فهذا لا يمكن للعقول إدراكه مهما بحثت فيه فتبقى العلة تعبديةً فيسلم بها المسلم ويعمل بها.

أما استنباط بعض الحِكم والتماس الآثار فهذا أمره واسع وللعقل فيه مجال، وقد بذل العلماء رحمهم الله في ذلك جهدًا كبيرًا على مدار التاريخ. سواء ما كان من النصوص مباشرة أو التماسًا من التشريع نفسه.

وأما المعاملات ونحوها فهذا يمكن بحث العلة فيه، ولذا بحثها علماء الأصول رحمهم الله وأجرى الفقهاء كثيرًا من القياسات التي ترتبت عليها كثير من الأحكام، مثل قياس المخدرات على المسكرات لعلة الإسكار وغياب العقل، وهكذا.

فتحصّل لدينا أن من مواطن العلاقة إعمال العقل في استنباط علل الأحكام من السنة النبوية في غير أمور الاعتقاد والتعبد، وكذا استنباط الحكم والأسرار والفوائد والآثار من عامة النصوص.

6- ومن مجالات العلاقة: الاجتهاد فيما ورد في السنة من علوم ومعارف، وإعمال العقل في ذلك، بل هو من أعظم المجالات التي يمكن للعقل أن يبحر فيها، ذلك أنه من المعلوم أنه على مدار التاريخ وجدت علوم ومعارف وربما يكون لها أصل تاريخي قديم، والسنة النبوية مليئة بما تحويه كنوزها. فالعقل المسلم السليم يحاول استخراج هذه الكنوز والمعارف ولنضرب مثالًا على ذلك: فعلم النفس والاجتماع والتربية علوم أخذت موقعًا كمبدأ في هذه الحقبة الزمنية، والسنة النبوية تحوي أصولًا لهذه العلوم، وتطبيقات فالعقل يستطيع أن يستخرجها وقد وُجدت بحوث في أقسام السنة النبوية في الجامعات أثبتت عمليًا هذا الأمر.

فدور العقل هنا مهم جدًّا.

7 – ومن مجالات العلاقة أن يعمل المجتهد عقله للموازنة والترجيح وبخاصة بين الآراء المختلفة من خلال أدوات الترجيح ومسوغاته وبقوة نظر الناظر المجتهد ويستطيع الوصول إلى الرأي الأقرب للصواب وهذا من أعظم مجالات العلاقة في الإسلام. وقد بذل الأئمة المجتهدون جهودًا غير عادية في إعمال العقل بين ما ظاهره التعارض بين الأدلة ورجحوا ما رأوه راجحًا بأدلته وقرائنه.



بحث عن بحث