الخطبة الثانية

   الحمد لله أهل الحمد والثناء، يضل بعدله ويهدي بفضله، من اهتدى من عباده، فلنفسه سعى، ومن عذاب الله نجا، ومن أعرض وأبى، فعلى نفسه جنى، أحمده سبحانه وأشكره، فله الحمد والشكر في الأولى والأخرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الطَّول والغنى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أنقذ به من الضلالة، وهدى به من العمى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وعلى طريقهم سار واقتفى.

   أما بعد: فاعلموا عباد الله! أن الصبر يعتمد على أساسين هما: قوة اليقين، وقوة الإرادة. وقال بعضهم: الصبر هو قوة الاستعانة بالله تعالى.

  وقال ابن القيم رحمه الله: (الصبر حبس النفس عن التسخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن المعصية). فالله سبحانه وتعالى ابتلى العبد، لا ليهلكه، ولكن ليمتحن صبره وعبوديته. لذلك كان الأنبياء والرسل أكثر الناس بلاءً. وأنه لا غنى للمسلم عن التحلي بفضيلة الصبر، والتخلق بها، والعمل الجاد للتحلي بها، وأن الطاعات بأنواعها من صلاة وصيام ونفقة وقربى، وقراءة وذكر ، وعمل بمعروف وأمر به، ونهي عن منكر واجتنابه، ودعاء ورجاء، وطلب ومناداة للخالق لا تكون إلا بالصبر، فهذه أولى الخطوات للوصول إلى درجة الصابرين.

وثانيها: استحضار عظمة الخالق، وتذكر أن ما يجرى في هذا الكون كله من تقديره وتدبيره، وأن ما دبره وقدره كائن لا محالة، وهو الذي يتصرف بالكون كله، فإذا ذكر العبد ذلك هانت عليه الأمور، وأصبح في عداد الصابرين.

وثالثها: استحضار ما أعده الله من ثواب عظيم وأجر مديد للصابرين، اسمعوا ماذا قال الله في ثوابهم: (ولنجزينَّ الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) [النحل: 96] ويقول في بيان مضاعفة الأجر: (أولئك يؤتون أجورهم مرتين بما صبروا) [القصص: 54] وأجرهم لا يحده حدود، فقال سبحانه : (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [الزمر: 10] ومن صبر كان الله معه، ومعه الفوز والفلاح في الدارين: (إن الله مع الصابرين) [البقرة: 153] وقال تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) [البقرة : 155-157] بل بصبرهم جعلهم الله أئمة مهتدين، قال تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبرو( [السجدة : 24].

أيها المسلم!

   يا من ابتليت  بشيء من المرض، أو بفقد الحبيب، أو موت القريب، أو بتعرض في أحوال المعيشة والرزق، أو بتعب الأولاد والذرية، أو بابتلاء الحسدة وأهل الغيرة! يا من ضاقت بهم السبل، وأعجزتهم الحيل! يا من اشتد بهم الكرب، وعلاهم الضيق والعسر! يا من علتهم الهموم، واكتنفتهم الأحزان، وسيطرت عليهم الأوهام! يا من ابتعدوا عن الأهل والعشيرة، وتغربوا عن الأوطان! تذكروا أن لكم في الصبر ملاذاً، ولكم في الله رغبة والتجاءً، وطمعاً في جنته ورضاه، وطريقكم إليه الصبر والرضا، وتذكروا تلك الفضائل تفوزوا بها. واعلموا أن ما أصاب المرء لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

   عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها خطاياه " .

    وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة"  .

   واعلموا، رحمكم الله تعالى، أن الصبر عند الصدمة الأولى، كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالصبر الشاق على النفس الذي يعظمُ الثواب عليه إنما هو عند نزول المصيبة، وعند شدتها وحرارتها، أما إذا بردت المصيبة، فكل لا بد صابر، ثم ليقل المصاب كما أمره الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم : إن لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجُرْني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها.

   ثم اعلموا أن كل مصاب في هذه الدنيا له عبرة في من هو أكثر منه مصيبة وبلاء، فالمرض ليس واحداً، والابتلاء متنوع، والفقر درجات، واغتنموا وجودكم في هذه الحياة؛ لتقتدوا بخير الصابرين، وقدوة المؤمنين، ابتلي بأنواع الابتلاء، فقدَ أباه قبل ولادته، ثم أمه وجدّه، ثم عمّه، وزوجته، ابتلي بصد قومه، وأذيتهم له، وتضييقهم عليه وعلى أصحابه، وابتلي بقلة ذات اليد، حتى ربط الحجر على بطنه من شدة الجوع، وبعداوة العشيرة والأقارب، ثم بجرحه ومرضه وشدته عليه، فصبر وصابر وشكر ، فلكل مصاب فيه قدوة، بل لكل مسلم ومسلمة فيه أسوة، فاقتدوا بـه، وصلوا عليه. كما أمركم الله جل وعلا بقوله: (إنَّ الله وملائكته يصلون على النبي....).



بحث عن بحث