الأزمة الحقيقية

الخطبة الأولى

  الحمد لله رب العالمين .. الحمد لله خلق الإنسان من علقة، وصوره فأبدع خلقه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل كل سُلامىَ من الإنسان صدقة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أحسن العالمين خُلُقاً وخِلْقة صلى الله وسلم عليه وعلى التابعين ومن تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلى أزواجه وآله وأصحابه زينهم بالحلم والعلم والشفقة.

أما بعد: عباد الله! اتقوا الله تعالى، يجعل لكم من أمركم يسراً، واتقوه يجعل لكم فرقاناً، واتقوه يجعل لكم من ضيقكم مخرجاً.

أيها المسلمون! قضت حكمة الله تعالى أن الحياة لا تستقر على حال، أفراحاً وأتراحاً، على مستوى الأفراد والمجتمعات والأمم، فها هو العالم بأسره يتقلب في أزمات حادة ومشكلات كبرى، تعظم في قطر، وتخف في قطر آخر، أزمات خانقة، ومنعطفات مروعة، تحمل بعضها في طياتها مؤشرات خطيرة مؤذنة بولادات متسعرة لكثير من المشكلات المتنوعة كماً وكيفاً.

أيها المسلمون! ولا يزال في هذه الأوصاف إجمالية، فلنلجْ إلى شيء من التفصيل، فها هي المشكلات الاقتصادية الكبرى، فأينما قلبت طرفك في شمال الأرض وجنوبها، وشرقها وغربها، إلا وجدت شبح الانهيار الاقتصادي مخيماً على تضخم رؤوس الأموال وكثرة المنتجات، ووجود وسائل الإنتاج المتنوعة، واكتشاف المزيد من المعادن، ووفرة مخزون النفط وغيرها، ومع ذلك تقام المؤتمرات، وتكثر الندوات، محللة أسباب تلك الانهيارات، وعوامل زيادة المديونيات، وتضخم المشكلات في بلدان كبرى وصغرى.

أيها المسلمون! وحدِّثْ ، ولا حرج عن المشكلات الاجتماعية في أنحاء من العالم كثيرة.. وعن تمثل أزمات خانقة.. على رأسها: النمو السكاني المتزايد، وإقامة المؤتمرات التي تقام ضده، الذي يرفع مستوى الطلب الاقتصادي.. مشكلات الأسرة، والأولاد بلا آباء أو أمهات، وتفشي الزنا، والتفكك الأسري، والطلاق والفراق، وعدم بناء الأسرة على الوضع الصحيح، وكثرة الملاجىء ودور العجزة ، وفي المقابل صيحات متوالية لهضم حقوق الأسرة، والمرأة والطفل والخادم، والعامل، والموظف.

أيها المسلمون!أما الأزمات السياسية والعسكرية، فغير خافية على ذي لب وبصيرة في تسلط القوي على الضعيف، وقتله، وسلبه، ورخص دمه، وتحميله ما لا يطيق، وهدم بيته وسكنه، وتشريد أهله، وتيتيم أطفاله، والعبث بمكتسباته ومقدراته، وفي النتيجة يستحق العقاب العسكري، والحصار الاقتصادي، وإدارة شؤونه، والتفكيك الاجتماعي، والاستيلاء على خيراته، فضلاً عن الأحكام المسبقة عليه من الهيئات والمجالس الكبرى.

أيها المسلمون! أما أزمات الأخلاق، فتتصدر تلك الأزمات، فقد أفل نجم الكثير منها على مختلف المستويات، ولعل من أبرزها على مستوى العالم كله: ضعف الأمن النفسي، والطمأنينة والسكينة، وتغلغل الاضطراب والقلق والاكتئاب.. ووصول هذه الحياة إلى حافة الانتحار، والتخلص من أعباء هذه الحياة.. وقل مثل ذلك كثير، فمن تلك الأخلاق في مكان العفة والحياء، والفضيلة والصدق، والتعامل الصادق، والكرم والجود، حتى وصل الأمر إلى محاربة تلك الفضائل سراً وجهاراً، فجعل إطعام الطعام ، وإيواء الأيتام، والتصدق على المحتاجين.. من أكثر عوامل الإرهاب التي تؤخذ على المتعامل بذلك، وتتعمق أزمة الأخلاق في مواقع متعددة إلى الانحطاط المتنامي، وذلك بإقرار زواج الذكر بالذكر بما يسمونه (المثلية).

أيها المسلمون! ولا شك أن هذه الأزمات السابقة الذكر، تنطلق من الأزمة الأم، والمشكلة الكبرى، والمعضلة العظمى، وهي أزمة المنطلقات الفكرية، والرؤى الثقافية التي تقود إلى تعميق تلك الأزمات ونشرها واستعمالها.. ولو دققت النظر لوجدت عبثاً منقطع النظير، بلا حدود من الفكر والثقافة، ومن أبرز الأمثلة في قلب المصطلحات الفكرية، وتسييرها نحو ما يريدها أولئك العابثون.. ولكم – أيها المسلمون- أن تستعرضوا عدداً من المصطلحات، وكيف قادت أهلها إلى كثير من الأزمات؟! فما مدلول مصطلح السلم والحرب، والإرهاب والأمن، والعدل والتسامح، والربا والفائدة وغيرها مما لا مجال لحصره؟ فلو بحثت عن إجابة لوجدت خلطاً عجيباً ، وتناقضاً واضحاً.

أيها المسلمون! هذه إشارات عابرة ، وعبارات خاطفة لما يعيشه العالم من هذه الأزمات.. والأمة المسلمة من ذلك العالم التي تحيط بها تلك المحن، فما أسباب ذلك؟ وما عوامل امتدادها وتحققها؟ وتكاثرها وانتشارها؟.

 ولا شك أن إجابات العالم تختلف، ورؤاه تتنوع بحسب المعتقدات التي يعتقدونها، والمبادىء التي يعتقدونها، والمنطلقات التي يؤمنون بها، وينطلقون منها، والثوابت التي يدينون بها.

   أما نحن المسلمون! فلنا مبادئنا، وثوابتنا، وأصولنا، ومصادرنا، لا تزعزعنا الأعاصير عنها مهما ضعف المسلمون، وتسلط عليهم غيرهم، وكثر الدَّخَنُ فيهم.

   تلك المبادىء والثوابت والأصول منطلقة من المصدر الحق: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بفهم سلف الأمة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فمهما تغيرت الأحوال، وتقلبت الظروف، فسيبقى المصدر الحق ثابتاً لا يتبدل ولا يتغير، وإن اختلف الزمان، وتغير المكان.

   اسمعوا- عباد الله !- لمصدرنا وهو يشخص المشكلة، ويوضح الداء في كلام موجز، وعبارات جامعة، قال سبحانه وتعالى: ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس لنذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون). [الروم: 41].

   إن البعد عن الله، وعن تعاليم الله، ومخالفة سنة الله يوقع الأمة في عواقب

وخيمة، واستمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يشخص الداء بأسلوب آخر: ( خمس بخمس، قالوا يا رسول الله: وما خمس الخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا نشأ فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأُخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبـس عنهم القطر) رواه الطبراني بسند حسن.

   هذه سنة الله تعالى، معادلة قائمة لا تختلف، هي للسابقين، وهي للاحقين، واستمعوا لهذه النماذج من كتاب الله تعالى، وهو يقص علينا طرفاً من أحوالهم مع رسلهم، وكيف كذبوهم مع دعوتهم إياهم لما فيه خلاصهم ونجاتهم؟! قال تعالى عن نوح وقومه: (فكذبوه، فأنجيناه والذين معه في الفلك، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين) [الأعراف: 64] ، وقال تعالى عن هود وقومه: (فأنجيناه والذين معه برحمة منَّا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين) [الأعراف: 72]. وقال تعالى عن ثمود: (قال الذين استكبروا إنَّا بالذي آمنتم به كافرون، فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) [الأعراف: 77] ، وقال تعالى : (فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين وأمطرنا عليهم مطراًَ فانظر كيف كان عاقبة المجرمين) [الأعراف: 83-84]، وقال تعالى عن قوم شعيب الذين أخلوا بالاقتصاد: (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) [الأعراف: 78، 91] هذه عباد الله سنة الله.. فالداء العضال، هو البعد عن الله، فهل يعي كل مسلم ذلك؟! هذا هو المؤمل والمرجو.

   نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله ومن نهجه اقتفى، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث