الدرس الحادي والعشرون

العشـــر الأواخــــر

الحمد لله الذي فضل بعض الأيام على بعض، وأمرنا بالاستعداد ليوم نلقاه بالنافلة والفرض، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم العرض.

فإن من فضل الله سبحانه وتعالى أن جعل الأيام، والليالي تتفاوت في المكانة والفضل وذلك منحة منه سبحانه ونعمة عظيمة ليتزود بها العباد من التقوى والأعمال في مسيرتهم في هذه الحياة، وليقفوا محاسبين أنفسهم عما مضى من الزمان، وماذا قدموا من الأعمال التي ترضي ربهم جل وعلا، وليستغفروا مما وقع منهم من الزلات، وليصححوا ما بدر منهم من الأخطاء، وليتوبوا إلى ربهم ويندموا على ما اقترفوه من الذنوب، وهذه صفة المؤمنين الصادقين الذين يرجون رحمة الله تعالى ويخافون عذابه.

أخي المسلم: ومن هذه المواسم المباركة العظيمة هذه العشر الأخيرة المباركة من هذا الشهر المبارك والتي كان يخصها المصطفى  صلى الله عليه وسلم  بأعمال ليست في غيرها ابتغاء لثواب الله وفضله وتعرضا لنفحاته وكرمه، تحدثنا عائشة ك عن منهج رسول الله  صلى الله عليه وسلم  في هذه العشر فتقول: كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. وتوضح هذا الاجتهاد ك بقولها: كان النبي  صلى الله عليه وسلم  إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله [متفق عليه] .

أخي المسلم: نقف مع هذه النصوص العظيمة من سيرة النبي  صلى الله عليه وسلم  الوقفات الآتية لتبين سيرته عليه الصلاة والسلام في هذه العشر :

الوقفة الأولى: من المعلوم أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قد غفر له ما تقد من ذنبه وما تأخر، مع ذلك كان يجتهد في هذه العشر بطاعة الله سبحانه وتعالى بالصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن والصدقة وغيرها. كان يجتهد طاعة لربه سبحانه وتعالى وعبودية له وذلا وخضوعا واستسلاما، ولنا في رسول الله  صلى الله عليه وسلم  أسوة حسنة، بأن نجتهد كما اجتهد عليه الصلاة والسلام، وما هي إلا أيام وليلي معدودة، ولا شك أن الاجتهاد مأخوذ من بذل الجهد والمشقة فلابد منهما لكسب الفضيلة والأجر والثواب. 

الوقفة الثانية: في قولها رضي الله عنها شد مئزره، وهذا كناية عن تركه جماع أهله واعتزاله لهم ذلك، ليتفرغ للعبادة من صلاة وقراءة وذكر ودعاء ومحاسبة وتفكر وغيرها، فإذا كان رسول الله يعتزل نساءه ويستعد هذا الاستعداد فينبغي للمسلم أن يقتدي به صلوات الله وسلامه عليه، فيعتزل الدنيا ومشكلاتها، ويعتزل المعاصي صغيرها وكبيرها، ويعتزل ما اعتاده من أعمال غير سليمة في هذه الليالي المباركة، بل ومن كثير من المباحات ليستثمر هذه العشر.

الوقفة الثالثة: في قولها رضي الله عنها أحيا ليله، وهذا اللفظ البارع يعطي أن الرسول  صلى الله عليه وسلم  كان في شغل وعبادة طوال الليل أو أكثره، استغلالا لكل لحظة من اللحظات، وانتهازا لفرصة قد لا تعود مرة أخرى، وكثير من الناس يحيون ليلي رمضان بالقيل والقال، والذهاب والإياب وجلسات على الأرصفة والاستراحات وتسكع في الشوارع والأسواق وعكوف على الفضائيات والنت وغير ذلك مما هو معروف لدى الكثير. فهلا وقفة مع النفس لمحاسبتها قبل أن تحاسب فتندم، وهلا رجوع إلى الله سبحانه وتعالى؟ وهل نحاول التشبه برسول الله  صلى الله عليه وسلم  وسلف الأمة الصالح بهذا الإحياء الذي به حياة القلوب والأرواح.

الوقفة الرابعة: في قولها ك وأيقظ أهله. لا شك أنه للصلاة والذكر، والدعاء والاستغفار، والقراءة والبر والإحسان وغيرها من أنواع العبادة، والناس في هذه الأيام لا ينامون في الليل فعليهم أن يستغلوه ويوجهوا أولادهم وأسرهم بهذه الأعمال الجليلة، واستغلالا للفرص العظيمة.

أخي المسلم: هذه والله الغبطة، وهذه والله هي المحبة والمودة والتربية يوقظ صلوات الله وسلامه عليه أهله اغتناما لهذه الليالي المباركة. وإن المؤسف جدا أن ترى كثيرا من المسلمين يوقظون أهلهم وأولادهم للسهر فيما لا طائل تحته، وأحيانا على لهو باطل وأمور مكروهة أو محرمة أو على الأقل لضياع الوقت سدى بلا فائدة، فهذه والله هي الخسارة كل الخسارة، والندامة يوم لا تنفع الندامة.

أيها الإخوة: إنكم مسئولون عن رعيتكم ومن تحت أيديكم، فأيقظوا أهليكم لإحياء الليل ودربوا صغاركم على العبادة والطاعة علموهم أن هذه الليالي تختلف عن غيرها.

وروى الترمذي عن زينب بنت أم سلمة ك أنها قالت: لم يكن النبي  صلى الله عليه وسلم  إذا بقى من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه.

إن المحافظة على الفرائض فيها خير كثير ولا نسأل يوم القيامة إلا عنها، ولكن ما الذي يدريك أخي الكريم أنك أديت الفرائض بالوفاء والتمام، فأنت بحاجة شديدة إلى النوافل لتكتمل بها نقص الفرائض يوم القيامة، والله سبحانه وتعالى حكيم عليم بعباده، فرض الفرائض وعلم أنهم يقصرون بإتمامها وإكمالها فشرع لهم النوافل لجبر هذا التقصير، روى الترمذي مرفوعا: «قال الرب سبحانه: انظروا هل لعبدي من تطوع، فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك»، وذلك يوم القيامة.

تقول عائشة رضي الله عنها: بلغني عن قوم يقولون إن أدينا الفرائض لم نبال ألا نزداد، ولعمري لا يسألهم الله إلا عما افترض عليهم، ولكنهم قوم يخطشون بالليل والنهار وما أنتم إلا من نبيكم وما نبيكم إلا منكم، والله ما ترك رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قيام الليل . تشير ك إلى أنه ينبغي للمسلم الإقتداء بنبيه  صلى الله عليه وسلم  فلا يدع قيام الليل.

الوقفة الخامسة: ومن الأعمال المستحبة في هذه العشر المباركة الاعتكاف وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى، فيعتكف الصائم في المسجد ليتفرغ للذكر والقراءة والصلاة والدعاء ومحاسبة النفس، والتأمل في حاله، مبتعدا عن مشاغل الدنيا وارتباطات الحياة، وقد اعتكف النبي  صلى الله عليه وسلم  في العشر الأواسط، ثم استقر اعتكافه في العشر الخيرة من رمضان، وعلى ذلك يحرص المسلم أن ينال نصيبًا من هذا الاعتكاف ولو بعض الأيام ليقتدي به عليه الصلاة والسلام، فالأجر عظيم والثواب جزيل، ولعله أن يوافق ليلة القدر وهو معتكف فيكتب له قيامها.

الوقفة الأخيرة: دعوة صادقة لكل مسلم ومسلمة أن يغتنموا هذه العشر المباركة وليبادروا بالإجابة مولاهم والاقتداء بنبيهم صلوات الله وسلامه عليه في شد مئزره وإحياء ليله وإيقاظ أهله، لعلنا ندرك نفحة من نفحات المولى عز وجل فنوافق ليلة القدر بقيام وذكر ودعاء وعبادة فيغفر للجميع ما تقدم من ذنوبهم.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على الاجتهاد في هذه العشر، وأن يتقبل منا صالح أعمالنا، وأن يغفر لنا زلاتنا وأخطائنا، إنه سميع قريب مجيب. 



بحث عن بحث