بعض القواعد الفقهية في باب جلب المصالح ودرء المفاسد

 

القاعدة الخامسة: إذا تعارض حاظر ومبيح قدم الحاظر احتياطاً:

والمراد بهذه القاعدة أنه إذا تعارض دليلان، أحدهما يقتضي التحريم والآخر يقتضي الإباحة غلب جانب التحريم.

يقول العلامة القرافي: يحتاط الشرع في الخروج من الحرمة إلى الإباحة أكثر من الخروج من الإباحة إلى الحرمة؛ لأن التحريم يعتمد المفاسد فيتعين الاحتياط له، فلا يقدم على محل فيه مفسدة إلا بسبب قوي يدل على زوال تلك المفسدة، أو يعارضها ويمنع الإباحة ما فيه من مفسدة بأيسر الأسباب دفعاً للمفسدة بحسب الإمكان(1)

والدليل عليه قول النبي ﷺ: «الحَلَالُ بَيِّنٌ, وَالحَرَامُ بَيِّنٌ, وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِن النَّاسِ, فَمَن اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ, وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ, أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى, أَلَا إِنَّ حِمَى اللّٰـهِ مَحَارِمُهُ, أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ, وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ, أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ«(2)

 

قال ابن حجر: «فِيهِ تَقْسِيم الْأَحْكَام إِلَى ثَلَاثَة أَشْيَاء, وَهُوَ صَحِيح؛ لِأَنَّ الشَّيْء إِمَّا أَنْ يُنَصَّ عَلَى طَلَبِهِ مَعَ الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِهِ, أَوْ يُنَصّ عَلَى تَرْكِهِ مَعَ الْوَعِيدِ عَلَى فِعْلِهِ, أَوْ لَا يُنَصّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَالْأَوَّل الحَلَال الْبَيِّن, وَالثَّانِي الحَرَام الْبَيِّن, وَالثَّالِثُ مُشْتَبِهٌ لِخَفَائِهِ فَلَا يُدْرَى هَلْ هُوَ حَلَال أَوْ حَرَام؟ وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيله يَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَرَامًا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ تَبِعَتِهَا, وَإِنْ كَانَ حَلَالًا فَقَدْ أُجِرَ عَلَى تَرْكِهَا بِهَذَا الْقَصْد«(3)

وقوله ﷺ: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك«(4)

قال صاحب التحفة: وَالمَعْنَى اُتْرُكْ مَا تَشُكُّ فِيهِ مِن الْأَقْوَالِ وَالْأَعمَالِ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَوْ لَا, أَوْ سُنَّةٌ أَوْ بِدْعَةٌ, وَاعْدِلْ إِلَى مَا لَا تَشُكُّ فِيهِ مِنْهُمَا, وَالمَقْصُودُ أَنْ يَبْنِيَ المُكَلَّفُ أَمْرَهُ عَلَى الْيَقِينِ الْبَحْتِ, وَالتَّحْقِيقِ الصِّرْفِ, وَيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ(5)

وفي الحديث دلالة صريحة على الأخذ بالاحتياط، وترك ما به بأس إلى ما لا بأس به.

*          *          *

وهذه القاعدة تفيد في معرفة أحكام وسائل الدعوة الجديدة التي يتعارض فيها دليلان، أو اجتهادان، فمن عوامل الترجيح هذه القاعدة، ولا شك أن تطبيقها يحتاج إلى مجتهد يستطيع إعمال الأدلة، والقدرة على إنزالها على المسألة بعينها، والوسائل كثيرة في عالم اليوم، مثل: الأناشيد، والتمثيل، الصور الإلكترونية، المشاركة في ميادين تتأرجح فيها المفاسد والمصالح، وغيرها.

والفائدة هنا أن نقول: عدم الاستعجال في الحكم مع عدم لوم المجتهد إذا اجتهد مع بيان الدليل، لا مطلق الاندفاع للجديد، وأن وسيلة جديدة يجب الإفادة منها، ولا مطلق الرد لاستنكار الجديد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كتاب الفروق للعلامة شهاب الدين القرافي، 3/154.

(2) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، برقم:(52)، ص: 12, واللفظ له. وصحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، برقم: (1599)، ص: 698.

(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، 4/ 291، بتصرف يسير.

(4) جامع الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب: حديث اعقلها وتوكل...، برقم: (2518), ص: 572، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(5) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي للمباركفوري، 3/322.



بحث عن بحث