بعض القواعد الفقهية في باب جلب المصالح ودرء المفاسد

 

القاعدة الرابعة: تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة:

إذا دار الفعل بين مصلحة ومفسدة، وكانت المصلحة أرجح من المفسدة، فلا بد من تقديم المصلحة مع التزام المفسدة، ودليله قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [سورة البقرة: 179].

فالقصاص فيه الحياة للأمة، وإماتة الفتنة، ولو تضرر القاتل بالقتل.

 

قال ابن كثير: يقول تعالى: وفي شرع القصاص لكم ــ وهو قتل القاتل ــ حكمة عظيمة لكم، وهي بقاء المهج وصونها؛ لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة النفوس. وفي الكتب المتقدمة: القتل أنفى للقتل، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز(1)

فقتل الجاني قصاصًا فيه نوع مفسدة، ولكن المصلحة الحاصلة بها أضعاف أضعاف تلك المفسدة، فلذا تُقَدَّم ما فيه مصلحة محققة على مفسدة حقيرة، فلولا القصاص لفسد العالم، وأهلك الناس بعضهم بعضًا، وبالقصاص تحقن الدماء وتحفظ المهج.

 

وقوله تعالى: ﴿ مَن كَفَرَ بِاللَّـهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّـهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [سورة النحل: 106].

التلفظ بكلمة الكفر مفسدة محرمة، لكنه جائز بالحكاية والإكراه إذا كان قلب المكره مطمئنًا بالإيمان؛ لأن حفظ المهج والأرواح أكمل مصلحة من مفسدة التلفظ بكلمة لا يعتقدها الجنان.

ومن السنة ما جاء عن حُمَيْد بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ ــ وَكَانَتْ مِن المُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ اللَّاتِي بَايَعْنَ النَّبِيَّ ﷺ ــ أَخْبَرَتْهُ, أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللّٰـهِ ﷺ وَهُوَ يَقُولُ: لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ, وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْـحَرْبُ, وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ, وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ المَرْأَةِ زَوْجَهَا(2)

 

فرخص النبي ﷺ الكذب في هذه المواقع الثلاثة؛ لأن مصلحة الحرب، والإصلاح بين الناس، وبين الزوجين أرجح من مفسدة الكذب. والإسلام يحرص على الوفاق والوئام؛ لأنه يستنتج منه فوائد كثيرة، كما يحذر من التفرقة والخلاف؛ لأنه يؤدي إلى مفاسد عظيمة.

ومثله في عالم اليوم: التضحية في راحة الإنسان، وعلى حساب بعض أموره الأسرية، أو التجارية في ضوء تحقق مصلحة راجحة؛ كأن يعمل الداعية أو المربي لمشروعٍ تربويٍ ولو أدى إلى مفسدة مرجوحة، لكن المصلحة من هذا المشروع ظاهرة فيقدم، وعلى هذا كثير من أحكام الشريعة.

والفرق بين هذه القاعدة وسابقتها أن هذه ظاهرة الوضوح في المصالح، والمفسدة مغمورة في ضوء هذه المصالح، أما تلك فالتعارض واضح بينهما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 1/301.

(2) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الكذب وبيان ما يباح منه، برقم: (2605)، ص: 1137.



بحث عن بحث