الوقفة الثالثة (1-4)

      وقفة عند قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم استقم«

هذا هو الركن الثاني في هذا الحديث، الاستقامة، وهي المواظبة والمداومة والاستمرار على أوامر الله، والاجتناب بصفة دائمة عما حرم الله، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}(1)، قال: «قد قالها الناس ثم كفروا؛ فمن مات عليها فهو من أهل الاستقامة« (2).

وقد قال تعالى: {إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(3).

قال ابن كثير في تفسيره: «أي: أحسنوا في حال الحياة، والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه؛ فإن المرء يموت غالباً على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه، وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وفق له ويسر عليه، ومن نوى صالحاً ثبت عليه«.

وفي الصفحات الآتية تفصيل لهذه الاستقامة مفهوماً وآثاراً ومعوقات.

      مفهوم الاستقامة وأهميتها:

الاستقامة: هي استفعال من القيام، قال النووي : في قوله صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله ثم استقم»(4): قال القاضي عياض :: «هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وهو مُطابق لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}، أي: وحَّدوا الله، وآمنوا به، ثم استقاموا فلم يحيدوا عن التوحيد، والتزموا طاعته سبحانه وتعالى إلى أن توفوا على ذلك - وعلى ما ذكرناه - أكثر المفسرين من الصحابة فمن بعدهم، وهو معنى الحديث إن شاء الله تعالى. هذا آخر كلام القاضي«.

وقال ابن رجب الحنبلي :: «والاستقامة: هي سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القويم من غير تعريج عنه يمنةً ولا يسرةً، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها، الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها«(5).

ويقول الشيخ صالح الفوزان وفقه الله: «فهي- يعني الاستقامة - تعني لزوم شريعة الله سبحانه وتعالى في التوحيد، وإخلاص العبادة لله، وفي الآداب والأخلاق والتعامل مع الناس، وفي كل ما يفعله الإنسان في هذه الحياة يكون مستقيماً على المنهج الصحيح الذي رسمه الله سبحانه وتعالى وبيَّنه رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا المنهج هو منهج الذين أنعم الله عليهم، كما قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ }(6)، فالذين أنعم الله عليهم هم أهل الاستقامة {من النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا}(7)، فالاستقامة تعني التوسط بين الإفراط والتفريط، بين التساهل وعدم المبالاة، وبين الغلو والتشديد. هذا هو طريق الاستقامة؛ لأن دين الله بين الغالي والجافي، الغالي هو الذي يزيد ويتشدد، والجافي هو المتساهل الذي لا يهتم بدينه بل هو مفرّط، وكذلك الغالي والمتشدد الذي يزيد في العبادة ويزيد في التمسك يظن أنه بذلك يطيع الله ورسوله، وهو بالعكس؛ لأن من خرج عن الجادة ومال عنها سواء بتساهل أو بتشدد خرج عن شرع الله سبحانه وتعالى، فالاستقامة هي الاعتدال من غير جفاء وتساهل، ومن غير زيادة وتشدد وإفراط في العبادة. هذا هو طريق الاستقامة«(8).

وفي هذا الوقت يرادف مصطلح الاستقامة مصطلح الالتزام، وهو في اللغة افتعال من اللزام، والالتزام: الاعتناق كما في لسان العرب، وقال ابن الأثير في «النهاية»: اللزام في اللغة الملازمة للشيء والمداومة عليه(9). ولا مشاحة في الاصطلاح إذا تبين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [فصلت:30]

(2) رواه النسائي في (الكبرى) (6/ 452).

(3) [البقرة:132]

(4) رواه مسلم في الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام (38)، وينظر شرح النووي للحديث

(5) (جامع العلوم والحكم) (1/395).

(6) [الفاتحة:6-7]

(7) [النساء:69]

(8) «الاستقامة» للدكتور صالح الفوزان حفظه الله، ص (8، 9).

(9) ينظر: «لسان العرب» (12/ 542)، و«النهاية في غريب الحديث» (4/ 248).



بحث عن بحث