الوقفة الرابعة

»فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد«

وفعل جبريل ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، وفي كل مرة بلغ منه الجهد، قَوْله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» مَعْنَاهُ لا أُحْسِنَ الْقِرَاءَة. فَمَا نَافِيَة، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا اِسْتِفْهَامِيَّة، أي: ماذا أقرأ؟ وهو قول ضعيف، قَوْله صلى الله عليه وسلم: «فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْد ثُمَّ أَرْسَلَنِي» قال ابن حجر: «قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي الْغَطّ شَغْله مِنْ الالْتِفَات وَالْمُبَالَغَة فِي أَمْره بِإِحْضَارِ قَلْبه لِمَا يَقُولهُ لَهُ، وَكَرَّرَهُ ثَلاثًا مُبَالَغَة فِي التَّنَبُّه، فَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يَحْتَاط فِي تَنْبِيه الْمُتَعَلِّم، وَأَمْره بِإِحْضَارِ قَلْبه. وَاَللَّه أَعْلَم«.

وفي مكان آخر قال ابن حجر: «والحكمة في هذا الغط شغله عن الالتفات لشيء آخر، أو لإظهار الشدة والجد في الأمر، تنبيهًا على ثقل القول الذي سيُلقَى عليه«.

فهذا الجهد الذي أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل جبريل كأنه إشارة إلى ثقل القول الذي سيتحمله، وكذا سيتحمله أصحابه من بعده، ثم جميع الدعاة إلى الله سبحانه، فالداعي إلى الله لا بد أن يتهيأ ويستعد لحمل أعباء الدعوة، ويتسلح بسلاح العلم والعمل، والجد والاجتهاد، والإخلاص، والإنابة إلى الله، كما أن الداعي يحتاج أن يكون له زاد التقوى، وعدة قوية، ومقدمات تسهّل عليه مهمات الدعوة، وقد أشار الله ﻷ إلى ذلك في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ . قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا . نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا . إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}(1)

إذًا: لا بد من استعدادات مقدمة لحمل هذا العبء الثقيل، تظهر في قوله وعمله وسلوكه، في ظاهره وباطنه، لا يكون الإنسان داعية وهو لا يؤدي الصلاة في أوقاتها، وقد تفوته صلاة الجماعة، لا يمكن أن يكون وهو يبخل في الإنفاق، وقد لا يخرج الزكاة، لا يمكن أن يكون الإنسان داعية وهو يهمل بيته ويقصر في تربية الأولاد، وقد يجلب إليهم بعض آلات اللهو واللعب، فالداعية عليه أن يكون حازمًا تجاه نفسه وتجاه أهله وتجاه الناس جميعًا، لا بد له من التعلق بالله ﻷ بالقيام بالفرائض كلها على الوجه المطلوب، ثم يعمل الإنسان ما استطاع من المستحبات والنوافل إذا أراد أن يكون داعية، فهذا التزود وتلك الاستعدادات من الأشياء المهمة لمن يريد أن يشتغل في الدعوة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [المزمل:1-5].



بحث عن بحث