الوقفة الثالثة: فجاءه الحق

كما أن المستشرقين قد أثاروا الشبهة في لقاء النبي صلى الله عليه وسلم  ببحيرى الراهب في سفره إلى الشام مع عمه أبي طالب، ولم يبلغ من عمره إذ ذاك إلا اثنتي عشرة سنة، والحديث كما ذكره الترمذي في سننه عن أبي موسى قَالَ: «خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِم الرَّاهِبُ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلا يَلْتَفِتُ، قَالَ: فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمْ الرَّاهِبُ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ؟ فَقَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنْ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلا حَجَرٌ إِلاّ خَرَّ سَاجِدًا، وَلا يَسْجُدَانِ إِلاّ لِنَبِيٍّ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ، وَكَانَ هُوَ فِي رِعْيَةِ الإِبِلِ قَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِن الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَنْ لا يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى الرُّومِ، فَإِنَّ الرُّومَ إِذَا رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِسَبْعَةٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِن الرُّومِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالُوا: جِئْنَا إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ، فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلاّ بُعِثَ إِلَيْهِ بِأُنَاسٍ، وَإِنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بُعِثْنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا، فَقَالَ: هَلْ خَلْفَكُمْ أَحَدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّمَا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بِطَرِيقِكَ هَذَا، قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِن النَّاسِ رَدَّهُ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَبَايَعُوهُ وَأَقَامُوا مَعَهُ، قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ؟ قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ، فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلالًا، وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنْ الْكَعْكِ وَالزَّيْتِ». قَالَ أَبُو عِيسَى: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ«(1).

ورواه أيضًا الحاكم في المستدرك في كتاب التاريخ (باب ذكر أخبار سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم)، كما رواه البيهقي في الدلائل (باب في خروج النبي مع أبي طالب..)، هذا ولكن الزرقاني في شرحه على المواهب اللدنية للقسطلاني [طبعة دار المعرفة 1/196] قال ما مفاده: «إن الذهبي ضعّف الحديث لقوله في آخره: وبعث معه أبو بكر بلالًا، فإن أبا بكر إذ ذاك لم يبلغ عشر سنين، وبلال لم يكن قد خلق بعد، ولم يشتره أبو بكر إلا بعد إسلامه واستنقاذه من تعذيب أمية بن خلف«.

والمعروف أن أصحاب السير يتساهلون في قبول كثير من الأخبار التي سبقت البعثة النبوية، وقد استغل بعض أعداء الإسلام من المستشرقين وغيرهم هذه الأخبار، فجعلوا من التقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ببحيرا الراهب مدخلًا للطعن على الإسلام، فادعوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ عنه بعض علوم الأولين وأصول ديانتهم، واقتبس منها دينه الجديد، وهل يصدق عاقل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الثانية عشرة من العمر، وفي لقاء عابر أثناء سفر شاق، تلقى علوم الأولين والآخرين؟ كما يخرف أدعياء العلم من المستشرقين وتلاميذهم؛ ليجعلوا مصدر الإسلام بشريًّا أرضيًّا لا وحيًا سماويًّا؟!

ونحن لا نريد بهذا أن ننفي الخبر برمته، فهو إحدى البشارات الصحيحة التي سبقت البعثة، ولكننا نرفض ما أضيف إليه من خيالات الرواة والقصاصين، وهي زيادات إما أنها منكرة متناقضة في متونها، وإما أنها ضعيفة مكذوبة في أسانيدها(2).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رواه الترمذي في المناقب، باب ما جاء في بدء نبوة النبي غ (3620) وقد ذكره ابن إسحاق، انظر: سيرة ابن هشام 1/227،228.

(2) من كلام د. محمد العيد الخطراوي ومحيي الدين مستو في حاشية الفصول في سيرة الرسول غ ص94.



بحث عن بحث