الحلقة السادسة
والحياة في الإسلام تمتد في الزمان فتشمل هذه الفترة المشهودة – الحياة الدنيا – وفترة الحياة الآخرة الأبدية.
والحياة الدنيا حياة كدح وسعي، وحياة ابتلاء وامتحان من الله تعالى لعباده، قال تعالى: ] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ[ الملك: 2.
وأما الحياة الآخرة فحياة حساب وجزاء، يثاب فيها المطيع ويعاقب فيها العاصي، قال تعالى: قال تعالى: ] يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[ آل عمران: 30، وقال تعالى: ] بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[ البقرة: 81. والإسلام بهذه النظرة يخالف مناهج الماديين الذين لا يؤمنون بالغيب، وينكرون الحياة الآخرة قديماً وحديثاً، فالحياة عندهم ما يشاهدونه من متاع الدنيا، ووجودهم منحصر في هذه الحياة الفانية فحسب، كما قال الله تعالى عنهم: ] إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ[ المؤمنون: 37.
وقد بين الله تعالى أن الحياة الحقيقية النافعة لاتتم إلا بالاستجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، فمن أصم أذنيه عن هذه الدعوى الخيرة فليس ممن يستحق أن يوصف بالحياة، قال تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ[ الأنفال: 24.
قال ابن القيم – رحمه الله- " فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أراذل الحيوانات، فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ظاهراً وباطناً فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول ، فإن كل ما دعا إليه فيه الحياة، فمن فاته جزء منه، فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول صلى الله عليه وسلم"(1) .
ومن مزايا هذا الدين" أنه لم يصور الآخرة على أنها مناقضة للدنيا ومتنافرة معها، بل متصلة بها منسجمة معها، فلم يطلب من الناس حين طلب إليهم الإيمان بالحياة الخالدة أن يولوا ظهورهم لهذه الدنيا، ولم ينفرهم منها، ولا من متعها ولذاتها المشروعة، بل ندد بمن يسلك هذه السبل المنحرفة عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ] قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[ الأعراف: 32، ولذلك لم تكن الدعوة إلى التفكير بالحياة الآخرة مخدرة للبشر صارفة لهم عن الأخذ بنصيبهم من متع هذه الحياة، ولا باعثة لهم على القناعة بالبؤس والفقر"(2).
هذه النظرة المتوازنة للحياة بشقيها ذات أثر كبير في توجيه اهتمامات المسلم وبناء طموحاته وتطلعاته، فتراه مجتهداً في إصلاح دنياه، وتحصيل ما ينفعه، مع اهتمامه بأمر آخرته، وبما يحقق له السعادة والنجاة فيها.
ولقد تجلى البرهان العملي لهذه النظرة المتوازنة للحياتين الدنيا والآخرة في ازدهار الحضارة في جميع جوانبها المادية إثر انتشار الإسلام، مع نمو وارتقاء الحياة الروحية والخلقية، ولا سيما في القرون الثلاثة الأولى(3).
هذه التصورات الإيمانية بوضوحها وكمالها، جاءت متسقة مع فطرة الإنسان ومكملة لها، وملبية حاجات الإنسان وتطلعاته ولاسيما في المسائل الغيبية؛ كأصل الكون، وأصل الإنسان وغاية وجوده، وما وراء هذا العالم المادي من عالم غيبي، وما وراء هذه الحياة من حياة أخرى(4).
وبهذا الرصيد العظيم من المعرفة يسمو الشاب المسلم ويزاد يقيناً وثباتاً، واتزاناً في حركته، ورشداً في سعيه، وينجو من القلق والاضطراب، والتفرق في الضلال، والتيه في مسالك الفكر المنحرف.
وإن نظرة متأنية في المجتمع الذي أنشأه الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقله نقلة هائلة من مجتمع ممزق متخلف في كل جانب من جوانب حياته، إلى مجتمع متميز في تناسقه، وأخلاقه، وإنسانيته، وإيجابيته، ومتفوق على سائر المجتمعات البشرية على امتداد تاريخها، تؤكد أن الأسس العقدية كانت الركيزة الرئيسة لذالك التغير والتطور.
ولذا فإنه على قدر جلاء هذه التصورات في ذهن المسلم، واستقرارها في قلبه، ورسوخها في نفسه يكون أثرها في صياغة شخصيته، وتوجيه فكره، وتقويم سلوكه، وحفزه إلى المثل العليا، والقيم الصالحة.
(1 ) الفوائد، دار الفكر(ص88).
(2 ) المبارك، محمد، نحو إنسانية سعيدة (1381هـ) جامعة دمشق (ص57).
(3 ) انظر: المبارك، نظام الإسلام– العقيدة والعبادة (1405هـ) دار الفكر(ص159).
(4 ) انظر: عبد الرحمن الزنيدي، مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي(1421هـ)، الرياض، مكتبة المؤيد (ص152) .