موقف الباحث المعاصر من التخريج الموسّع
الباحث مطالب ببعض هذه العناصر، وبعض العناصر قد ذكرت من باب إتمام الفائدة، مثل بيان التعارض، والناسخ والمنسوخ، وشرح الألفاظ الغريبة، كما أشار إلى ذلك ابن الملقن في مقدمة البدر المنير، ومن ثَمَّ فعلى الباحث الالتزام بالآتي:
1. سياق إسناد الحديث كاملا ً: وللباحث أن يسوق ما يراه مناسبًا لمقاصده، مثل تخريج الحديث من كتاب اشتُرِطَت فيه الصحة، أو من غيره إذا كان بالسند نفسه.
وفي هذه الحالة إذا أراد الباحث أن يحكم على حديث - عند أبي داود مثلاً- دون ذكر السند، وهو لم يشترط الصحة، سيذكر سند البخاري، ويقول: أخرجه أبو داود به؛ لأن هذا التخريج يُغني الباحث عن دراسة السند.
فإن كان الحديث عند الستة يُذكر الصحيحان، ثم يُربَط السند في السنن بسند الصحيحين، بقولنا: به، ولا داعي لذكره كاملاً.
وإذا كان في السند عِلةٌ، مثل وجود راوٍ مبهم، لا بد من ذكر السند كاملاً، حتى يظهر هذا المبهم، ففي الأول احتجنا إلى إبراز السند لإثبات الصحة عند من لم يشترطها، وفي الثاني احتجنا إلى إبراز السند لإظهار العلة.
2. ذكر متن الحديث كاملاً: ولذلك حالات:
الحالة الأولى: إذا وقع في المتن سَقْط، أو تصحيف، أو زيادة، أو نقصان، وكان مؤثرًا في الحكم، فلا بد من إظهار المتن بتمامه، وقد لا يفهم الحديث إلا بذكر المتن كاملاً.
مثاله: قال الكمال بن الهمام في شرح فتح القدير (2/ 460): " فرع: إذا فرغ من السعي يستحب له أن يدخل فيصلى ركعتين؛ ليكون ختم السعي كختم الطواف، كما ثبت أن مبدأه بالاستلام كمبدئه عنه - عليه الصلاة والسلام-، ولا حاجة إلى هذا القياس، إذ فيه نص، وهو ما روى المطلب بن أبي وداعة قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حين فرغ من سعيه جاء حتى إذا حاذى الركن فصلى ركعتين في حاشية المطاف، وليس بينه وبين الطائفين أحد". رواه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان.
هذا الحديث الذي استشهد به ابن الهمام على ما قرر من حكم فيه تصحيف، فقد تحول لفظ " سبعه" أو " أسبوعه" إلى "سعيه"، والأسبوع هو أشواط الطواف السبعة.
والحديث في سنن ابن ماجه لفظه: عن المطلب قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا فرغ من سبعه جاء حتى يحاذي بالركن، فصلى ركعتين في حاشية المطاف، وليس بينه وبين الطواف أحد"(1).
ولفظه في مسند أحمد (2/ 399): عن المطلب بن أبي وداعة قال: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم- حين فرغ من أسبوعه أتى حاشية الطواف فصلى ركعتين، وليس بينه وبين الطواف أحد".
قال النووي في المجموع (8/ 76): " وقال الشيخ أبو محمد الجويني: "رأيت الناس إذا فرغوا من السعي صلوا ركعتين على المروة، قال: وذلك حسن، وزيادة طاعة، ولكن لم يثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-". وهذا كلام أبي محمد. وقال أبو عمرو بن الصلاح: "ينبغي أن يكره ذلك؛ لأنه ابتداع شعار"، وقد قال الشافعي - رحمه الله-: "ليس في السعي صلاة". وهذا الذي قاله أبو عمر أظهر. والله أعلم.
الحالة الثانية: وقد يكون في الكتاب إشارة إلى الحديث فقط، كما يقولون: ودليلهم كما ثبت من فعله - صلى الله عليه وسلم-, ثم يشيرون بالمعنى دون ذكر النص. فلذلك حتى نثبت الحكم الشرعي لا بد من ذكر المتن كله.
وإذا أردنا أن نسوق الحديث شاهدًا للحديث، فلابد من ذكر المتن كاملاً؛ حتى نثبت للقارئ أن المعنى في الحديث المستشهَد له موجود في الحديث المستشهَد به.
3. ذكر حال الراوي والتعريف به: ويكتفي فيه بذكر خلاصة الأقوال بعد الرجوع إلى المراجع الموسعة. وهذا الأمر مقيد بحال الراوي، فحال الراوي من أحد الصحيحين غير حال الراوي من الكتب الأخرى، فإذا نظرنا إلى تعقبات الذهبي على الحاكم نجد أنه يقول في الراوي: فلان متروك، ومعناه أن الحديث لا ينجبر، فإذا راجعنا أقوال الأئمة فيه نجد أن الذهبي نفسه يقول عنه في الكاشف: صدوق أو ضعيف، والراجح في حاله أنه كذا وكذا.
4. جمع أسانيد وطُرُق الحديث مع ألفاظ المتون: ولا يلجأ الباحث إليه إلا إذا كان يحتاج إلى جبر ضعف الحديث، أو كشف العلة في المتن أو الإسناد، أو توضيح ما يحتاج إلى توضيح، مثل: مبهم، أو مجمل، أو مفصّل، وكذلك الاختلاف على الراوي، مثل الرواية عن صحابيَين، كما لو كان في خمسة مصادر ذكر صحابي واحد، وفي مصدر صحابي آخر مع اتحاد المدار، أو أن يكون أبو داود يرجح الإرسال، ويرجح الحاكمُ الوصل.
وعند جمع الأسانيد يتبين الرفع، والوقف، والإرسال، والوصل، والانقطاع، والاتصال، وما إلى ذلك، وأما المتون، فمثل حديث جَمَل جابر، كما في البخاري، لكنها تُجمع للمقارنة بين سياق المتون، وحديث القُلتين، تُجمع لجمع ألفاظها.
وإذا كانت الأسانيد والمتون مختلفة، بعضها يحتج بها, وبعضها ضعيف، يتوسع في تخريجها لبيان ضعف بعضها أو اضطرابها وترجيح غيرها، لذلك نرى الدارقطني جمع طرق حديث القُلتين (25 طريقًا)، وتعرض للرواة حتى اتضح له عدم وجود الاضطراب في الأسانيد، ورجح أن راوي الحديث حدَّث به عِدة مرات؛ لتعدد تحديد كمية القُلتين.
وقد تكون المتون صحيحةً، وتجمع لبيان الراجح والمرجوح، أو الناسخ والمنسوخ، أو لإثبات حكم من الأحكام، ونجد ذلك في مشكل الآثار وشرح معاني الآثار للطحاوي, وتهذيب الآثار للطبراني، وهذه فائدة مهمة؛ لأن مثلَ هذه الكتب تذكر الأحاديث المعللة.
5. الأحاديث التي في الباب، وهي الشواهد والمتابعات، ويجمعها موضوع الحديث؛ لأنها تشهد للحديث المذكور فيه. وإطلاق العلماء قولهم: (وفي الباب) أعم من إطلاق الترمذي؛ لأن مقصود الترمذي ذكر الشواهد فقط، ويريد غيره ذكر المتابعات والشواهد معًا، فالباحث بحسب غرضه، هل يأخذ مما في الباب لتقوية المتن، أو تقوية الإسناد.
وإذا كان الحديث صحيحًا تجمع شواهده ومتابعاته لدفع الغرابة عنه، وأما إذا كان الحديث ضعيفًا ضعفًا يقبل الجبر فلا بد من جمع الشواهد والمتابعات، حتى يرتقي إلى الحسن لغيره، أو أن يرتقي الحسن إلى الصحيح لغيره، وهذه الفائدة لها تعلق بالصنعة الحديثية, ولها فائدة في الحديث الموضوعي لجمع الأحاديث في موضوع واحد.
6. ذكر الحديث المعارض، متنًا أو إسنادًا: ويحصل أن يكون الحديثان المتعارضان صحيحين، فإما أن يوفق بينهما، وإما أن يكون أحدهما أقوى فيعلل الثاني، أو يُتوقف فيهما.
ومثاله: أن يصحح الحاكم حديثًا، ويوافقه الذهبي، ثم يذكر له معارِضًا من الصحيحين، فيعلل الحديث.
ويقال في الحديث المعلول: هذا حديث رواته ثقات، ولا يقال: هذا حديث صحيح، ولكنه معارض بكذا وكذا، والحديث الثاني أوثق.
7. ذكر تفسير الألفاظ الغريبة: ولا يحتاج إليه الباحث إلا بقدر ما يتوقف على هذا التفسير من إدراك معنى الحديث, مثل حديث أم زرع، وهذا العنصر يعتبر تكملة للفائدة، ويُقتصر فيه على ما يتعلق به الموقف، وإن كان بصدد كتاب للغريب فيتناول كل لفظة غريبة.
8. بيان بعض الاصطلاحات الحديثية: مثل هل العبرة بما روى الراوي أم بما أفتى به ورآه؟ انفرد الحنفية باعتبار ما أفتى به راوي الحديث، ومن أمثلة ذلك ولوغ الكلب في الإناء، وهذا مهم إذا كان الباحث يعمل في تخريج كتاب للأصول، وأما في مجرد تخريج الأحاديث فلا حاجة إلى مثل هذا العنصر، وثمرته أنه يساعد على معرفة منهج المؤلف في كتابه.
9. تعقب المخرجين بعضهم على بعض: وذلك عند اشتغال أكثر من عالم في تخريج كتاب واحد، مثلما فعل ابن قطلوبغا في "مُنية الألمعي" فيما فات الزيلعي، وطُبع في نهاية نصب الراية.
وتعقب الحافظ ابن حجر شيخه في تخريج بعض أحاديث الإحياء، ونقل عنه الزبيدي في الإتحاف.
التخريج الوسط أو المتوسط:
وهو تخريج بين المطول والمختصر، يعني فيه المخرِّج بذكر روايات الحديث المشهورة، مثل: الكشف المبين عن تخريج أحاديث إحياء علوم الدين للعراقي، وهو مفقود، لكن ابن فهد المكي تلميذ العراقي وصفه بأنه تخريج متوسط بين المطول والمختصر، وذكر فيه أشهر أحاديث الباب، ومثل "التلخيص الحبير" للحافظ ابن حجر، و"خلاصة البدر المنير" لابن الملقن.
ويقول ابن الملقن في بيان منهجه في الخُلاصة: ذاكرًا من الطرق أصحها وأحسنها، ومن المقالات أرجحها، مشيرًا بقولي: متفق عليه لما رواه الشيخان.
ومعنى هذا أنه إذا كان الحديث عند الخمسة صحيحًا، فإنه يختار أصحها، وإذا كان الراوي مختلفًا فيه فإنه يختار أرجح الأقوال، ويختار في شرح الغريب أرجح التفسير.
(1) سنن ابن ماجه، كتاب المناسك، باب الركعتين بعد الطواف، رقم: (2958).