حديث (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله....)

 

قال الإمام مسلم رحمه الله في آخر (كتاب القدر) من صحيحه:

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير قالا حدثنا عبد الله بن إدريس عن ربيعة بن عثمان عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان)).

المبحث الأول: التخريج:

أخرج الإمام مسلم هذا الحديث في هذا الموضع من صحيحه ولم يكرره لا في هذا الموضع ولا في غيره، وهو من الأحاديث التي انفرد بها عن البخاري.

ورواه ابن ماجه في موضعين من سننه، أولهما في أوائل سننه في (باب في القدر) ولفظه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد الطنافسي قالا حدثنا عبد الله بن إدريس عن ربيعة بن عثمان عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان)).

والثاني: في (كتاب الزهد، باب التوكل واليقين) ولفظه: حدثنا محمد بن الصباح أنبأنا سفيان بن عيينة عن ابن عجلان عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن غلبك أمر فقل: قدر الله وما شاء فعل، وإياك واللو فإنَّ اللو تفتح عمل الشيطان)).

وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عمرو بن عثمان المكي قال فيه: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن عيينة عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وكلٌّ على خير، واحرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن فاتك شيء فقل كذا قدر، وكذا كان، وإياك ولو فإنها مفتاح عمل الشيطان)). غريب من حديث ابن عيينة عن ابن عجلان.

وأخرجه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) في ترجمة عمرو بن عثمان المذكور ولفظه: أخبرني أبو سعد الماليني - قراءة - أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر ابن حيان قال: أملى علينا عمرو بن عثمان المكي الصوفي قال حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن عيينة عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة - أو غير أبي هريرة، الشك من أبي عبد الله - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن فاتك شيء فقل كذا قدر، وكذا كان، وإياك ولو فإنها مفتاح عمل الشيطان)). فهذا يدل على معنى التوكل بالتكسب، فإذا فاتهم الأمر بعد الكسب قالوا كذا أراد الله، وكذا قدر الله. ثم قال الخطيب: قلت: ما بعد ذكر الشيطان هو كلام عمرو المكي وليس بكلام النبي صلى الله عليه وسلم.

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ مسلم أبو بكر بن أبي شيبة تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.

الثاني: شيخ مسلم ابن نمير: وهو محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني بسكون الميم، الكوفي أبو عبد الرحمن، ثقة حافظ فاضل من العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين - أي بعد المائتين -. قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع أباه ومحمد بن بشر وعبد الله بن إدريس عندهما - أي في الصحيحين -. روى عنه البخاري ومسلم في مواضع كثيرة. وذكر في (تهذيب التهذيب) كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك: قال أبو إسماعيل الترمذي: كان أحمد بن حنبل يعظم محمد بن عبد الله بن نمير تعظيماً عجباً، ويقول: أي فتى هو؟. وعن أحمد أيضاً قال: هو درّة العراق. ونقل توثيقه عن العجلي وأبي حاتم والنسائي وابن وضاح وابن قانع.

الثالث: عبد الله بن إدريس تقدم في رجال إسناد الحديث الثالث.

الرابع: ربيعة بن عثمان: قال الخزرجي في (الخلاصة): ربيعة بن عثمان بن ربيعة بن عبد الله ابن الهدير التميمي حفيد الذي تقدم - يعني ربيعة بن عبد الله -، عن محمد بن يحيى بن حبان ونافع. وعنه ابن المبارك وابن إدريس. وثقه ابن معين، قال النسائي: ليس به بأس. قال أبو زرعة: ليس بذاك القوي، له عندهم فرد حديث. ورمز لكونه من رجال مسلم وابن ماجه والنسائي في (عمل اليوم والليلة)، وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): المدني، يكنى أبا عثمان، سمع محمد بن يحيى بن حبان في القدر، روى عنه عبد الله بن إدريس - يعني في صحيح مسلم -، وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): له عندهم حديث: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)). ونقل توثيقه عن الواقدي وابن نمير والحاكم، وقال في (التقريب): صدوق له أوهام، من السادسة، مات سنة أربع وخمسين - أي بعد المائة - وهو ابن سبع وسبعين سنة.

الخامس: محمد بن يحيى بن حبان: وهو محمد بن يحيى بن حبان - بفتح المهملة وتشديد الموحدة - ابن منقذ الأنصاري المدني، ثقة فقيه، من الرابعة، مات سنة إحدى وعشرين - أي بعد المائة - وهو ابن أربع وسبعين سنة. قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع أنس بن مالك وعمه واسع بن حبان وعبد الله بن محيريز والأعرج عندهما، وقال: روى عنه يحيى الأنصاري وعبيد الله بن عمر ومالك وربيعة بن أبي عبد الرحمن عندهما - أي في الصحيحين - والليث بن سعد عند البخاري، ثم ذكر جماعة رووا عنه عند مسلم ومنهم: ربيعة بن عثمان. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): قال ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الواقدي: كانت له حلقة في مسجد المدينة، وكان يفتي، ثقة كثير الحديث.

السادس: الأعرج: وهو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، أبو داود المدني مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبت عالم، من الثالثة، مات سنة سبع عشرة - أي بعد المائة -، قاله الحافظ في (التقريب)، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع أبا هريرة وغير واحد، روى عنه الزهري وصالح بن كيسان وأبو الزناد وجعفر بن ربيعة وزيد بن أسلم وسعد بن إبراهيم عندهما. ثم ذكر جماعة رووا عنه عند مسلم منهم: محمد بن يحيى بن حبان. ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن ابن سعد وابن المديني والعجلي وأبي زرعة وابن خراش.

السابع: أبو هريرة رضي الله عنه: أكثر الصحابة حديثاً، وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث العشرين من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسناد السبعة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلا شيخ مسلم أبا بكر بن أبي شيبة فلم يخرج له الترمذي، وإلا ربيعة بن عثمان فلم يخرج له منهم إلاّ مسلم وابن ماجه والنسائي في عمل اليوم والليلة.

(2) ثلاثة من رجال الإسناد كوفيون وهم: أبو بكر بن أبي شيبة، وابن نمير، وعبد الله بن إدريس، وأربعة منهم مدنيون وهم الباقون.

(3) اثنان من رجال الإسناد اشتهرا بالكنية وهما: أبو هريرة رضي الله عنه واسمه عبد الرحمن بن صخر على الراجح، وأبو بكر بن أبي شيبة واسمه عبد الله بن محمد.

(4) في الإسناد رجل اشتهر بلقبه وهو: الأعرج واسمه عبد الرحمن بن هرمز.

(5) ربيعة بن عثمان من رجال مسلم دون البخاري وليس له في صحيح مسلم وسنن ابن ماجه سوى هذا الحديث الواحد، وجده ربيعة بن عبد الله من رجال البخاري دون مسلم وليس له في صحيح البخاري إلا حديث واحد موقوف، رواه عنه عثمان بن عبد الرحمن التيمي في (كتاب سجود القرآن) كما ذكره المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين).

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) قوله (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف). المراد: القوة في طاعة الله عز وجل، والرغبة في تحصيلها والعمل على ذلك ودعوة الغير إليها، والعناية في ذلك، فإن وجدت القوة البدنية التي يتمكن المؤمن بها من تحقيق هذه المطالب العالية واستعملت في ذلك، كانت القوة أتم ونتائجها أكمل وأجل.

(2) قوله (وفي كل خير). أي في كل من المؤمن القوي والضعيف خير، وذلك لاتصافهما معاً بالإيمان مع ما يكون عند الضعيف من العمل أيضاً، وهذه الجملة ذكرت بعد الجملة قبلها احتراساً عند المفاضلة لئلا يستهان بالمفضول، ونظير ذلك قوله تعالى عن النبيين الكريمين داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ*َفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ) ثم قال: (وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً). وكلمة (خير) تأتي أفعل تفضيل حذفت منه الهمزة، وتأتي اسماً في مقابل (الشر)، وقد جاء ذكرهما معاً في هذا الحديث. فهي في قوله: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)) أفعل تفضيل، وفي قوله: ((وفي كل خير)) اسم في مقابل الشر.

(3) قوله (احرص على ما ينفعك). عمم فيما يحرص عليه ليكون شاملاً لكل نافع في الدنيا والآخرة، والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع، فيحرص المؤمن على كل ما فيه سعادته في العاجل والآجل.

(4) قوله (واستعن بالله). بعد أن أمر المؤمن بالأخذ بالأسباب فيما ينفعه، أرشده الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن يكون مستعيناً بالله معتمداً عليه، فإن كل خير إنما هو بتوفيقه وتسديده ومعونته، فالأسباب لا تنفع إن لم يجعلها نافعة، لأنه سبحانه خالق الأسباب والمسببات، فالمؤمن مأمور بأن يأخذ بالسبب المشروع دون تعويل عليه، وإنما يعول على مسبب الأسباب الذي بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

(5) قوله (ولا تعجز). وبعد أن أمر المؤمن بالحرص على ما ينفع والاستعانة بالله في تحصيله، نهى عن ضد ذلك وهو العجز والكسل الذي تضعف معه الهمم وتهن العزائم، والذي ينتج منه الفشل والعاقبة الوخيمة.

(6) قوله (وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان). أي إذا فعلت ما أمكن من الأسباب وحصل مع ذلك فوات مطلوبك، فارض بقضاء الله وقدره، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا تضف ذلك إلى أسباب فتقول: لو أني فعلت كان كذا وكذا، فإن الأسباب لا تنفع إن لم يجعلها مسبب الأسباب نافعة، إنما عليك أن تقول: قدر الله وما شاء فعل، فترضى وتسلم.

(7) هذا الحديث فيه النهي عن استعمال (لو) وقد جاء استعمالها في أحاديث ولا تنافي بينها، لأن النهي محمول على التحسر من شيء فائت، واستعمالها في تمني الخير وإخبار عن شيء مستقبل.

(8) هذا الحديث يشتمل على فوائد عظيمة منتظمة، وهو من جوامع كلمه صلوات الله وسلامه عليه، فإنه أوّلاً ذكر المفاضلة بين المؤمن القوي والمؤمن الضعيف، وبين أن القوي خير وأحب إلى الله من الضعيف، وفي ذلك حث على الأخذ بأسباب القوة والاستزادة من الخير، ثم ذكر أن كلا منهما لديه الخير، وفيه فضل مشترك بينهما وإن زاد القوي على الضعيف ما كان به خيراً وأحب إلى الله منه. ثم أكد ذلك بالأمر بالحرص على ما ينفع في العاجل والآجل، وأرشد مع الأخذ بالأسباب إلى التعويل على مسبب الأسباب بقوله (واستعن بالله)، ثم حذّر مما ينافي الحرص على النافع والاستعانة بالله في تحصيله وهو العجز والكسل، ثم أرشد إلى ما يجب فعله عند فوات المطلوب بأن لا يفتح الإنسان على نفسه باباً للشيطان بأن يقول: لو أني فعلت كان كذا وكذا. وأرشد إلى ما فيه الخير والتسليم لقدر الله والعمل على ما يرضيه سبحانه بقوله: ((ولكن قل قدر الله وما شاء فعل)) فصلوات الله وسلامه على البشير النذير الذي أرشد إلى كل خير وحذّر من كل شر.

(9) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) إثبات صفة المحبة لله تعالى.

(2) أن محبته تعالى تتفاضل، فهي للمؤمن القوي أعظم منها للمؤمن الضعيف.

(3) تفاضل الناس في الإيمان.

(4) أن الإيمان يزيد وينقص.

(5) أن الإيمان سبب لمحبة الله تعالى.

(6) الحث على تقوية العبد إيمانه.

(7) أنه عند المفاضلة بين الفاضل والمفضول ينوه بالفضل المشترك بينهما لئلا يتوهم القدح في المفضول لقوله صلى الله عليه وسلم ((وفي كل خير)).

(8) أمر المؤمن بالحرص على ما ينفعه في دنياه وأخراه بفعل أسبابه المشروعة النافعة.

(9) تقييد الذي يحرص عليه المؤمن بكونه نافعاً.

(10) أمر المؤمن بأن يستعين بالله في تحصيل مطلوبه.

(11) أخذ المؤمن بالأسباب المؤدية إلى حصول المطلوب بدون تعويل عليها.

(12) أن الاستعانة لا تكون إلا بالله وحده فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى.

(13) افتقار العبد إلى توفيق الله ومعونته ولو بذل ما بذل من الأسباب.

(14) النهي عن العجز والكسل في الأمور النافعة.

(15) الإرشاد إلى أسباب تقوية الإيمان.

(16) وجوب الإيمان بالقضاء والقدر والرضا والتسليم لما قدره الله وقضاه.

(17) النهي عن استعمال (لو) تسخطاً ولوماً للقدر.

(18) إرشاد المؤمن عند فوات مطلوبه أن يقول: (قدر الله وما شاء فعل).

(19) أن استعمال (لو) مفتاح لعمل الشيطان.

(20) سد الذرائع التي تفضي إلى الشر وتوقع في المحذور.

 



بحث عن بحث