الخوف من الله وأثره على المسلم

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله تعالى وراقبوه في جميع أقوالكم وأعمالكم وأحوالكم، فالله مطلع على السرائر والضمائر، ومطلع على العلانية والجهر.

أيها المسلمون: لقد رسم الرسول صلى الله عليه وسلم لنا منهجاً في هذه الحياة، في التعامل مع الله وفيما يكون بيننا وبينه من أعمال القلوب حال عملنا أو حال ترك عملنا أو بعد عملنا.

روى الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييئس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار»، هكذا يصور الرسول صلى الله عليه وسلم ما عند الله سبحانه وتعالى من الرحمات العظيمة، ومن العقاب الأليم لمن لم يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك بهذا التصوير يُجلِّي الرسول صلى الله عليه وسلم موقف المؤمن بأن يرجو ما عند الله سبحانه وتعالى حال عمله الثواب العظيم، وأن يرجو قبول توبته عندما يتوب، وأن يرجو الفوز العظيم بعمله للصالحات في هذه الدنيا، وفي الوقت نفسه يخشى ما عند الله جل وعلا من العقوبة الكبيرة من خلال ما يعمله من المعاصي أو من التهاون بها، ويخشى أن يختم له بخاتمة السوء.

ويشبِّه الإمام ابن القيم رحمه الله هذا المنهج بطيران الطائر بجناحيه؛ الجناح الأول يمثل رجاء رحمة الله جل وعلا، والجناح الآخر يمثل خوف عقابه سبحانه وتعالى.

ولذلك لما نتمعن نصوص القرآن والسنة، نجد أنها حافلة بتأكيد هذين الأمرين العظيمين.

 أيها المسلمون: الخوف أنواع؛ أولها: الخوف الطبعي الجبلي، فهذا لا يمدح صاحبه ولا يذم إلا بما يؤرثه هذا الخوف من الإقدام على المعصية أو الإقدام على الطاعة، فإن جعله هذا الخوف مقدامًا لطاعة الله مُدِح عليه، وإن جعله مقدامًا على المعصية أو ترك الطاعة فهذا يُذم عليه.

أما الخوف الثاني وهو الذي يخافه الإنسان من مخلوق مثله فهذا معصية من المعاصي، ولكنه قد يصل والعياذ بالله إلى الشرك بالله سبحانه عندما تعلوا درجة هذا الخوف فيساوي خوفه من المخلوق بخوفه من الخالق جل وعلا.

أما الخوف المقصود المحبوب والمطلوب فهو الخوف من المولى جل وعلا، والذي جاءت به النصوص الكريمة حاثَّة عليه أو مبينة آثاره وفضله، ومن ذلك أن يخشى الإنسان العامل للصالحات ألا يقبل عمله؛ لأنه قد يكون ارتكب أمرًا خفيا أو معصية من المعاصي حجبت عنه هذا القبول؛ ولذلك يقول جل وعلا: )ذلك الذي يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون([الزمر: 16]، ويمكن أن يخاف المؤمن من سوء الخاتمة والعياذ بالله عندما يعمل في هذه الحياة بالأعمال الطالحة وهذا يمثله قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان في الحديث الطويل: « إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها» -والعياذ بالله- .

قال أهل العلم: فهذا يعمل بالطاعات في الظاهر، ولكنه في الخفايا يعمل بالمعاصي، فهذا يُخشى أن يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيُختم له بذلك والعياذ بالله.

وذكر أهل العلم جملا من القصص في هذا الباب: من ذلكم من كان الذي يظهر الطاعة ولكنه كان يتعامل بالربا وأكل أموال الناس بالباطل فخُتِم له بخاتمة السوء حينما قيل له قل: لا إله إلا الله، قال: لا، عشرة بعشرين وهكذا حتى خُتِم له بذلك.

ومن ذلك من كان يشرب الخمر ويواظب عليها، وظاهر عمله أنه يعمل بالصالحات فعندما حضرته الوفاة وقيل له قل: لا إله إلا الله، قال: لا، إنما أريد كأسًا، إنما أريد كأسًا، وهكذا خُتم له بهذا والعياذ بالله.

وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يخشون الله لما وقر في قلوبهم من تعظيمه وعظم معصيته مما يعلموه أو لا يعلموه، يقول أبو ذر رضي الله عنه: « والله لوددت أني كنت شجرة تعضد »يعني تقطع، من شدة خوفه من الله جل علا.

هكذا كان المتقون الأبرار الذين يخشون ويخافون الله جل وعلا، ولذلكم عباد الله إن الذي يوفق لأن يخاف ربه جل وعلا خوفًا من سوء الخاتمة أو خوفًا من عدم قبول العمل، أو عدم قبول التوبة أو الوقوع في النار والعياذ بالله، مثل هذا الخوف يورث صاحبه الجِدَّ في العلم والعمل، )ذلك الذي يخوف الله عباده يا عباد فاتقون( [الزمر: 16] فيسارع العبد إلى هذه التقوى عندما يخاف ربه جل وعلا.

هذا الخوف عباد الله يجعل المسلم يجتهد ويسأل الله حسن الخاتمة، ومن ثمَّ يورث جنة الله ورضوانه كما قال جل وعلا )ولمن خاف مقام ربه جنتان([الرحمن: 46]. ليست جنة واحدة إنما جنتان جنة في الدنيا كما قال بعض المفسرين وجنة الآخرة.

فاجتهدوا عباد الله حال عملكم، اسألوا الله قبول العمل، واسألوه قبول التوبة، واحذروا من الوقوع في المعاصي مهما كانت صغيرة، وانظروا إلى عظمة من عصيتم، وتذكروا أن الله: " شديد العقاب"، وأنه يغار على حرماته، وإذا وقعت في المعصية فسارع بالتوبة والإقلاع منها، أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا خشيته وحسن عبادته.

نفعني الله وإياكم بهدي القرآن والسنة، وما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

@@@@

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

عباد الله: إن الناظر في حال كثير من المسلمين يرى وكأنهم لن يبعثوا مرة أخرى، وكأنهم سيخلدون في الدنيا وما علموا أن الله جل وعلا مطلع على السرائر والضمائر ومطلع على العلانية والجهر، ومطلع على القلوب وما تُخفِي، فضلا عن الأعمال الظاهرة، يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، يسمع السرَّ والنجوى، يحصي كل شيء على عباده ولو كان أمراً صغيرا حقيرا )فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره([الزلزلة: 7-8]، وسيُحصَى على الإنسان كل شيء من قول أو فعل أو تصرف ولو كان لا يراه أحد، وسيعرض عليه يوم القيامة ويرى كتابه وسيأخذه بيمينه إن كانت أعماله صالحة، وسيرى الأعمال الأخرى والعياذ بالله حتى ليخشى أن تقوده إلى النار.

أيها المسلمون: ما بال أقوام يلهثون وراء هذه الدنيا ساهين لاهين غافلين، كأنهم لن يموتوا ولن يبعثوا مرة أخرى، كأنه لم يكتب عليهم كتاب، والله جل وعلا أرسل الرسل وأنزل الكتب وحذَّر ونذَّر وبعث لنا رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه هذا الكتاب العظيم الذي هو خاتمة الكتب، وما فيه من سعادة في الدنيا وفي الآخرة إلا بيَّنها، وما من شقاوة في الدنيا والآخرة إلا بيَّنها، فيه القصص والعبر، فيه الآيات والنذر، فيه بيان أحوال الناس، فيه الحِكَم والأحكام، وغير ذلك مما لا يخفى.

أيها المسلمون: ما بال أقوام ساهين ليلهم ونهارهم، عن الصلاة لاهين، وعن الزكاة غير فاعلين، وفي الليالي يسهرون على كثير من المعاصي والعياذ بالله.

ومما ابتلي به الناس اليوم من النت ومواقع الاتصال وغيرها مما جرَّت على كثير من المسلمين من الويلات والفتن ما لا يعلم به إلا الله جل وعلا.

أيها الشباب: ما بالكم وكأنكم ستعمرون في هذه الدنيا بين جهاز يلهيكم عن الله جل وعلا، وصديق سوء، وشارع ليس فيه إلا كثير من المعاصي كأنكم ستعمرون وستخلدون أبد الدهر في هذه الدنيا، ما بالكم لا تنظرون إلى مستقبلكم في الدنيا وفي الآخرة، ألا تخشون الله جل وعلا، ألا ترون كثيرًا من الشباب هذا تدهسه سيارة نتيجة تفحيطه، وهذا يهلكه المرض نتيجة ما ابتلي به من الدخان وغيره، وهذا يضعف قلبه لم نسمع بالكثير من أمراض الشباب اليوم إلا نتيجة لما وجد من المعاصي، فضلا عن كثير من المأكولات والمشروبات التي ابتلي بها الشباب اليوم مما يورث أمراضًا عظيمة فأماتت قلوبهم وأضعفتهم عن الأعمال، وأظهرت أجساماً هزيلة لا تقوى على طاعة الله.

أيها المسلمون: في الوقت فسحة، فاخشوا ربكم جل وعلا، واستدركوا ما فاتكم واقتدوا برسول الله الذي كان يعمل الصالحات ويخشى ألا يُقبل عمله.

جِدِّوا واجتهدوا عباد الله، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «بادروا بالأعمال »، هل تنتظرون إلا فقراً منسيا أو غنى مطغياً أو موتاً مجهزا، أو الدجال فشر من يُنتظر، بادروا ونافسوا كما أمركم المولى جل وعلا)سابقوا إلى مغفرة من ربكم([الحديد: 21]، )وسارعوا إلى مغفرة من ربكم([آل عمران: 133]، هكذا من يريد المستقبل الحق في الدنيا من السعادة، وتحقيق الطموح والآمال، ومن يريد السعادة في الآخرة فيفوز الفوز العظيم.

هكذا كان صغار الصحابة رضوان الله عليهم، فابن عباس رضي الله عنه مات عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثالثة عشرة من عمره، ومع ذلك كان يسابق الصحابة لطلب العلم حتى تحققت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يكون خير مفسّر للقرآن وخير معلِّم كما قال عليه الصلاة والسلام: « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» ولا زالت الأمة تقرأ تفاسيره، وسُطِّرت هذه التفاسير وهو كان صغيرا وقت وفاته عليه الصلاة والسلام، وهكذا كان جل الصحابة من الصغار، أيها الشباب، أيها المسلمون لنا فيهم قدوة.

فتشبهـوا بهـم إن لم تكـونوا مثلـهم                    إن التشبـه بالكــرام فــلاح.

ثم صلوا وسلموا على رسول الله، كما أمركم الله جل وعلا في محكم كتابه العزيز حيث قال: )إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما([الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

@@@@



بحث عن بحث