القاعدة التاسعة

استخدام الأساليب التربوية المختلفة

r   مدخـل:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم أساليب تربوية مختلفة من أجل إيصال المعلومة إلى المدعوين، وتختلف هذه الأساليب بحسب ما تتطلبه العملية التربوية، ومن الخير تنوعها، واستخدام كل أسلوب في مناسبته ومقامه، كما يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهم هذه الأساليب:

r   أولاً: التربية النبوية بالقدوة:

لا يستطيع أي مربّ أو تربوي مهما كان ناجحًا أن يوصل رسالته التربوية للآخرين ويؤثر فيهم من غير أن يكون هو نفسه أنموذجًا صحيحًا لما يدعو إليه من مبادئ وقيم وأخلاق، لأن هذه القيم تبقى مثاليات نظرية مجردة إذا لم تترجم على الواقع من قبل المنظِّر لها والداعي إليها.

والنفس البشرية بفطرتها تتجاوب مع هذه الحقيقة، لذا، كان من أهم المعالم التربوية في الهدي النبوي وجود القدوة الحسنة والصالحة أمام المدعوين والتي تمثّلت في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن حياة النبي عليه الصلاة والسلام كانت ترجمة للمبادئ والتعاليم الربانية التي جاءت في كتاب الله، في جميع نواحي الحياة، المتعلقة بتعامله عليه الصلاة والسلام مع الله تعالى ومع أهل بيته والصحابة من حوله ومع الصغار والنساء وحتى مع أعدائه في أوقات السلم والحرب، وقد أخبر الله تعالى الأمة بهذه الحقيقة فقال: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا         ﴾.

وصدق حسان رضي الله عنه حين قال:

ويُنْقذُ من هَوْل الخَزَايا ويُرْشِدُ
معلمُ صدقٍ، إن يطيعوهُ يسعدوا
فَمِنْ عندْه تَيْسيرُ ما يَتَشدّدُ

  يدُلُّ على الرحمن مَنْ يقتدي به
إمامٌ لهم يهديهمُ الحقَّ جاهدًا
وإنْ ناب أمرٌ لم يقوموا بحمله

وتنوعت مظاهر القدوة الحسنة وتعددت أشكالها للنبي صلى الله عليه وسلم بحسب المبادئ التي يدعوا إليها والميادين التي يعمل فيها، ومن أهم هذه المظاهر:

1 ـــ القدوة في العبادة :

لم يحث النبي صلى الله عليه وسلم على عبادة أو طاعة إلا كان هو المتقدم الأول للقيام بها، بل إنه عليه الصلاة والسلام يعبد الله حتى تتفطر قدماه، ثم يأمر الصحابة بالطاعة حسب ما يطيقون، ولا يشدّ عليهم في ذلك، عن عائشة ك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقالت عائشة لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: «أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا فلما كثر لحمه صلى جالسا فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع».

وفي الصحيح من حديث عائشة: «كان رسول الله إذا دخلت العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله» .

وهذا يعني أنه عليه الصلاة والسلام كان القدوة الحسنة الماثلة أمام الصحابة رضوان الله عليهم حين يعلّمهم العبادات ويحثهم عليها، ويذكّرهم بالأجر الكبير والثواب العظيم المترتب على ذلك.

2ـــ القدوة في التعامل مع أهل بيته:

لقد وصفت أم المؤمنين عائشة ك خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان خلقه القرآن»، فانبثق سائر أعماله عليه الصلاة والسلام من هذا الخلق العظيم الذي أشار إليه القرآن الكريم: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾، وكان إظهار هذا الخلق واضحًا في بيته مع زوجاته وبناته، حيث كان يحدثهم بأطيب الكلمات وأرق التعابير، وكان يلاعبهم ويلاطفهم، ويدخل السرور إلى قلوبهم، ويعدل بينهم ويحنّ عليهم، قالت عائشة ك: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه».

بل إنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم داخل البيت بكثير من الأعمال التي يراها البعض من شأن النساء فحسب، وقد أخبرت أم المؤمنين عائشة ك بذلك فقالت: «كان بشرًا من البشر: يفلي ثوبه ويحلب شاته، ويخدم نفسه».

فهذا الخُلق العظيم داخل البيت هو القدوة العملية للصحابة والأمة من بعدهم، التي فيها من الدروس العظيمة في المجال التربوي بالنسبة للمربين والمشرفين على المؤسسات التربوية المختلفة.

ومثل هذه الخصال والخلال كثيرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل بيته من زوجات وبنات.

 3 ـــ القدوة في التعامل مع الناس :

إن من أهم الأركان التربوية التي أرساها رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال القدوة الصالحة هو التعامل الإنساني الرفيع مع الصحابة من حوله، رضوان الله عليهم، فلا يحقّرهم ولا يذلهم ولا ينفر منهم، بل يقابلهم بالوجه الحسن المبتسم، ويكلمهم بأسلوب هادئ رزين، ويشاركهم في أفراحهم وأتراحهم، وكان يعاملهم معاملة واحدة، حتى يظن أحدهم أنه عليه الصلاة والسلام لا يعامل أحدًا بمثل ما يعامله من الرفق واللطف.

وهذا التعامل من أولويات التربية والدعوة إلى الله، لأنه يحبب المدعو في الداعية قبل أن يتلقى منه ما يدعوا إليه، وصدق الله القائل: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾.

ثم إنه عليه الصلاة والسلام كان يشاورهم في أمور الدعوة وفي التعامل مع الأحداث، دون تمييز أو تفريق بينهم، عربًا كانوا أم عجمًا، فقد أخذ برأي سلمان الفارسي بحفر الخندق في غزوة الأحزاب، وجعل بلالاً مؤذنه الخاص وهو حبشي.

وهذه أسمى صورة للقدوة العملية في التعامل مع الآخرين، فهو نبي هذه الأمة وزعيمها وقائدها، ولكنه في الوقت نفسه، واحد منهم، يشاركهم في حياتهم اليومية.

4 ــــ القدوة في التعامل مع الصغار:

لم يكن عليه الصلاة والسلام القدوة الحسنة في التعامل مع الكبار فحسب، بل كان قدوة حسنة ونموذجًا أخلاقيًا رفيعًا في تعامله الحاني والرحيم مع الصغار والأطفال، فكان عليه الصلاة والسلام يلاعبهم ويمازحهم، ولا يغضب عليهم ولا يضربهم، حتى أحبه جميع الصبيان والأطفال، تقول عائشة ك: كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتي بالصبيان فيدعو لهم فأُتي بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه ولم يغسله».

وإذا أصاب أحد هؤلاء الصغار مكروه، تجد الرسول عليه الصلاة والسلام يبكي عليهم ويحزن لمصابهم، فقد رآه مرة سعد بن عبادة رضي الله عنه وعيناه تفيض دموعًا، فقال رضي الله عنه: «يا رسول الله، ما هذا؟ فيقول عليه الصلاة والسلام: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء».

وفي هذا النموذج التربوي من الهدي النبوي درس عظيم للمربين والمدرسين وأولياء الأمور لبناء الأجيال الناجحة التي تتفوق في ميادين الحياة المختلفة.

5  ــــ القدوة في التعامل مع أعدائه:

كان النبي صلى الله عليه وسلم القدوة العملية الحسنة في تعامله مع أعدائه أيضًا، الذين وقفوا في وجه الدعوة إلى الله، وأعلنوا الحرب عليه وعلى أصحابه، وآذوهم وقتلوهم، واعتدوا على أموالهم وهجّروهم إلى الحبشة والمدينة، وغير ذلك من أنواع التعدي والتنكيل، إلا أنه عليه الصلاة والسلام حين تمكّن منهم ودانت له الوفود والقبائل، لم يعاملهم بروح الثأر والانتقام، بل أظهر الجانب الإنساني ورسالة الرحمة التي جاء بها الإسلام، حين قال لهم بعد فتح مكة: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» .

وعندما غادر إلى الطائف لعله يجد من ينصره هناك، استقبله بنو ثقيف بالطرد ولحقه صبيانهم بالحجارة والشتائم، حتى أدميت قدماه، جاءه ملك الجبال وقال له: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال عليه الصلاة والسلام: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا».

وما أحوج البشرية اليوم إلى هذا الخلق، الذي افتقده العالم مع الأصدقاء وصاروا مع الأعداء وحوشًا كاسرة لا تعرف الرحمة ولا معنى للقيم والفضائل، وما نجده في هذا العصر من أسباب الدمار للعباد والنبات والماء بأقذر الأسلحة لدليل على فقدان الأخلاق لدى الأمم التي تمارس هذا السلوك تجاه من يعاديها من الشعوب.

6 ـــ القدوة في النزاهة:

حيث كان عليه الصلاة والسلام يرى نفسه جزءًا من المجتمع الذي يعيش في كنفه، ويحسب لما عند الناس من مفاهيم اجتماعية وأعراف إنسانية، فلم يكن صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن الواقع النفسي الإنساني، فإذا قام بعمل أو تصرف، أسرع إلى حقيقته وبيانه للناس، حتى لا تختلط عندهم المفاهيم أو تراودهم الخواطر والهواجس، تقول أم المؤمنين صفية ك : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفًا، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته ثم قمت لأنقلب ، فقام ليقلبني ، وكان مسكنها في دارأسامة بن زيد ، فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا،فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما إنها صفية بنت حيي، فقالا : سبحان الله:يا رسول الله . قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءًا».

7 ـــ القدوة في التعامل المالي:

تظهر قدوة النبي صلى الله عليه وسلم في الجانب المالي من خلال نظرته إلى المال والدنيا، وقد عبّر عن ذلك بقوله: «مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها».

وبناء على هذه النظرة يمكن التعرف على التعامل المالي عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان كريمًا يجود كالريح المرسلة، فعن ابن عباس م قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة».

- فلم يضع عليه الصلاة والسلام في حسبانه الهدف المادي والمالي، بل كان همّه دعوة الناس وهدايتهم، والشاهد على ذلك حين عُرض عليه في بداية دعوته المال والملك والجاه والنساء، فأبى كل ذلك من أجل الوصول إلى تحقيقه غايته المنشودة.

- كان عليه الصلاة والسلام كريمًا معطاءً، لا يبخل على أحد من المال والمتاع، ففي الصحيحين عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، أن الأعراب علقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم مَرْجِعَه من حُنَيْن، يسألونه أن يقسم بينهم، فقال: «لو كان لي عدد هذه العَضاة نَعمًا، لقسمتُه بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً، ولا كذوبًا، ولا جبانًا».

ويقول جابر رضي الله عنه: ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ قط فقال: لا. .

هو البحرُ من أيّ النواحي أتيته            فلُجَّتُه المعروفُ، والجودُ ساحِلُهْ

- ولم يكن عليه الصلاة والسلام يخشى الفقر أو الفاقة من كرمه وجوده، بل كان يعطي القاصي والداني، من غير أن يحسب للمستقبل وما يؤول إليه، كما يفعل عامة الناس، يقول أنس رضي الله عنه: «ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا أعطاه، فجاء رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة».

- إضافة إلى ذلك، فإنه عليه الصلاة والسلام، من شدة كرمه وجوده، كان يهدي أصحابه متاعه الخاص، كالعباءة أو الثوب، فقد روي أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببُردة فقالت: يا رسول الله: أَكْسوك هذه. فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها، فلبَسَها، فرآها عليه رجل من الصحابة، فقال: يا رسول الله، ما أحْسَنَ هذه، فاكْسُنيها. فقال: «نعم». فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم، لامه أصحابه فقالوا: ما أحسنْتَ حين رأيتَ النبي صلى الله عليه وسلم أخَذها مُحتاجًا إليها، ثم سألتَهُ إياها، وقد عرفتَ أنه لا يُسأل شيئًا فيمنعه. فقال: رجوتُ بَركتَها حين لبِسها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلّي أُكفَّن فيها.

8  ــــ القدوة في التحمّل والصبر وإدراك العواقب:

كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم الدعوية سلسلة من الابتلاءات، فقد تعرض لألوان من العذاب والأذى في مسيرته الدعوية التي دامت ثلاثة وعشرين عامًا، وكان قدوة في الصبر والتحمّل أمام تلك التحديات، ومن أهم معالم هذه المعاناة والأذى:

أ - تعرضه عليه الصلاة والسلام للأذى في نفسه، حين اتّهمه المشركون بالشعر والسحر والجنون، قال الله تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ    ﴾.

ب - تعرضه عليه الصلاة والسلام للأذى في بدنه، فعن عروة قال: سألت عمرو بن العاص، فقلت: أخبرني بأشدّ شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حجر الكعبة، إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه فدفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم».

ج - تعرضه عليه الصلاة والسلام للأذى في عرضه في حادثة الإفك التي اتّهم فيها أم المؤمنين عائشة ك بالفاحشة، ثم برَّأها الله تعالى، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ .

د - تعرضه عليه الصلاة والسلام وأصحابه ن للأذى والحرمان بالحصار والمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية في إحدى شعاب مكة لثلاث سنوات متتالية.

هـ - تعرضه عليه الصلاة والسلام مع صحابته للأذى والعذاب بالهجرة وترك الأهل والديار والأموال، وما رافق ذلك من متاعب السفر والخوف من المشركين.

و - تعرضه عليه الصلاة والسلام للأذى بالإعراض والتصدي لدعوته، كما حدث في ذهابه إلى الطائف، فتلقاه صبيانهم بالسخرية والحجارة حتى أدميت قدماه.

وغيرها من المواقف والأحداث المهولة التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة ن، ولكنه في جميع هذه الحالات والشدائد كان قدوة في الصبر والثبات، بل إنه عليه الصلاة والسلام كان يشدّ من عزائم الصحابة ويحثهم على الصبر والمصابرة.

يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو متوسد ببرد له في ظل الكعبة – قلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيُجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون».

ويقول ابن إسحاق :: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر، وبأبيه وأمه، وكانوا أهل بيت إسلام، إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء مكة، فيمرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول، فيما بلغني: «صبرًا آل ياسر، موعدكم الجنة».

وفي ذلك كله دروس وعبر للدعاة للتحمّل والصبر والثبات، من أجل بلوغ الغايات وتحقيق الأهداف، حيث كان عليه الصلاة والسلام يخبر الصحابة بما ستؤول إليه الأحوال بعد هذه الشدائد والمحن، كما في قوله السابق: «والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون».

9 ـــ القدوة للدعاة والمربّين والموجّهين في منهجهم الدعوي:

وأما في الجانب الدعوي، فإنه عليه الصلاة والسلام كان القدوة العملية والمثل في منهجه وأسلوبه وطريقته في الدعوة إلى الله تعالى، فمنها:

أ – إخلاص النية لله تعالى، ومن ثم السعي من أجل هداية الناس، من خلال بيان ما جاء به الوحي من القرآن، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.

ب – حبّ الهداية للناس، لأنه الأصل والهدف من عملية الدعوة إلى الله تعالى، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع المثل في هذا الأمر، حين عفى عن الوحشي بعد هدايته للإسلام وهو قاتل حمزة رضي الله عنه عمّ النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك العفو عن هند بنت عتبة بعد إسلامها ك، فلم يمارس عليه الصلاة والسلام الثأر أو الانتقام لعمّه الذي كان من المحبين والمقرّبين له.

ج – الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة كما علّمه الله ربّه جلا وعلا، بقوله: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ .

د – استخدام المنطق والموضوعية أثناء بعض الحوارات مع المشركين، كما علّمه الله تعالى حين قال: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌقُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾. لأن صعوبة إيجاد الأشياء تكون في بداية الصنعة لا سيما إذا كانت من العدم، والأمر يكون أسهل في عملية الإعادة، ومعادلة منطقية سليمة استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين الذين صعّبوا وهوّلوا من إعادة خلق الإنسان بعد أن تتحول عظامه إلى تراب ورماد.

هـ – استثمار الفرص والمناسبات للدعوة إلى الله تعالى، كدعوته عليه الصلاة والسلام الوفود القادمة كل عام لأداء نسك الحج.

و – التيسير على المدعوين في العبادات والتشريعات، كموقفه عليه الصلاة والسلام من الأعرابي الذي بال في المسجد.

ز – بُعد النظر والتخطيط للمستقبل، من أجل تحقيق الهدف، مثل إرساله الرسل إلى البلدان والولايات، وكتابة رسائل الدعوة إلى الملوك والأمراء، وكذلك تأسيس قواعد في الخارج لحماية الدعوة كما حدث بعد بيعة العقبة الأولى والثانية، حين صار للمسلمين أنصار وأتباع في المدينة المنورة، آووهم ونصروهم عند الهجرة.

ومثل هذا المنهج والتخطيط مهم للداعية والمربي من أجل نجاح عملية الدعوة والتربية، وإيصال صوت الحق إلى الناس جميعًا بمختلف طبقاتهم ومستوياتهم.

10 ـــ القدوة للقادة في نظراتهم الشمولية:

كان النبي صلى الله عليه وسلم قائدًا محنكًا وإداريًا ناجحًا، إضافة إلى كونه داعية ومربيًا ومعلمًا، فقد كان ينظر إلى شؤون المسلمين نظرة شمولية، وهو على بيّنة مما يجري حوله من الأحداث والتغيرات، ويتعامل معها بدراية وبعد نظر، فمن بعض هذه الرؤى:

أ – كان عليه الصلاة والسلام يهتم بالناس ويتفقد أحوالهم، ويعاين مشكلاتهم، لأن ذلك جزء من مسؤولياته القيادية، فيُطعم الجائع، ويكسي العريان، ويزور المريض، ويعطف على الصغير ويوقّر الكبير، ويشارك الناس في أفراحهم وأحزانهم، وقد تمثّل لقوله: «كلكم راع وكلكلم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته». وقد سبقت أم المؤمنين خديجة ك الحديث عن اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالناس والمحتاجين حين قالت: «كلا أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق».

ب – يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، لا سيما في الجيش، لأنه عليه الصلاة والسلام يعرف الصحابة وما يتمتع كل واحد منهم بالخصال والخلال المميزة التي يمكن الاستفادة منها في المواطن المناسبة، فقد كان أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وسلمان الفارسي من المقرّبين والمستشارين له عليه الصلاة والسلام.

ج – يحافظ على أموال المسلمين ويضعها لهم في بيت المال، لصرفها في مصارفها المشروعة ويحثّ على ذلك، وقد تبيّن هذا الحرص من النبي صلى الله عليه وسلم على أموال المسلمين من الحادثة الآتية:

استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالكم وهذا هدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا جلستَ في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقًا، ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته، والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يده حتى رئي بياض إبطه يقول: اللهم هل بلغت بصّر عيني وسمّع أذني.

د – يشجّع أساليب الحوار وفنون التفاوض، كما حدث في صلح الحديبية، حيث كانت الشروط صعبة على المسلمين وفي صالح المشركين، إلا أنه عليه الصلاة والسلام، كان يعرف خصومه من المشركين، ويعرف نمط التفكير والتخطيط عندهم، فلم يرفض ولم يمنع تلك الشروط القاسية، لأنها صارت لصالحهم فيما بعد.

¡  ¡  ¡

وخلاصة الكلام في التربية بالقدوة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان: دينًا وخُلقًا يمشي على الأرض، فيرى الناس الإسلام من خلال أقواله وأعماله ومواقفه، وهذا يلزم الآباء والمربّين والمعلمين أن يقتدوا بهذا الأسلوب التربوي النبوي، ونقله من جيل إلى جيل، حتى تستقيم الأحوال ويسير ركب الأمة في الاتجاه الصحيح نحو البناء والإنتاج والقوة.



بحث عن بحث