الخصيصة الخامسة : تربية واقعية (3-4)
ثالثا/ واقعية النظرة إلى الحياة والتعامل معها:
ينظر الإسلام إلى الحياة ويتعامل معها بكل واقعية . فهو يقرر أن الدنيا مزرعة للآخرة ؛ لذلك لا ينبغي إهمالها ، ولا يجوز الافتتان بها ، ولا يجوز ـ في نظر الإسلام ـ أن نترك الدنيا للآخرة ، أو نترك الآخرة للدنيا . ولكن ينبغي أن نأخذ من هذه لتلك لتوفيرها وتحصيلها ، فتنمو الحياة وتتجدد ، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض ، ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة ، فلا ينحرفون عن طريقها ، ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها .
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان ، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة ، التي لا حرمان فيها ، ولا إهدار لمقومات الحياة .
قال تعالى : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) (1).
يقول صاحب الظلال في هذه الآية : في هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم المنهج الذي يوجه قلب المتعلق بالدنيا إلى الآخرة ، ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة ، بل يحضه على هذا ، ويكلفه إياه تكليفا ، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها .
لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس ، وليعملوا في الأرض وقد صرح القرآن الكريم بإباحة التمتع بطيبات الحياة في غير حرج ولا تثريب قال تعالى : ( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ) (2) .
وقال جل شأنه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ )(3) .
كما نعى القرآن الكريم على من يشددون على أنفسهم في هذا الشأن فقال سبحانه :
( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (4) .
كما شرع الإسلام الترويح عن النفوس باللهو المباح ليذهب عنها الكسل والملل .
ولتقبل على العبادة بعد ذلك بانشراح واشتياق ، وقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سابق السيدة عائشة رضي الله عنها فسبقته ثم سابقها مرة أخرى ـ بعد أن غشيها اللحم ـ فسبقها ، فقال لها مداعبا : هذه بتلك (5).
كما أباح النبي صلى الله عليه وسلم الغناء العفيف في الزواج وفي الأعياد إظهارا للبهجة ، وتحقيقا ليسر الإسلام وسماحته .
روي البخاري أن أبا بكر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده جاريتان تغنيان وأراد أن ينهرهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا " . وقال أيضا : " حتى تعلم اليهود أن في ديننا فسحة ، وأني بعثت بحنيفة سمحة "(6) .
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يداعب أصحابه ويمازحهم ويلاطفهم وكان لا يقول إلا حقا ، ومواقفه صلى الله عليه وسلم في ذلك كثيرة وجليلة .
وحول واقعية الإسلام في نظرته للحياة والتعامل معها يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله : " إن الإسلام دين للواقع ، دين للحياة ، دين للحركة ، دين للعمل والنتاج والنماء ، دين تطابق تكاليفه فطرة هذا الإنسان ، بحيث تعمل جميع الطاقات الإنسانية عملها الذي خلقت من أجله ، وفي الوقت ذاته يبلغ الإنسان أقصى كماله البشري المقدر له عن طريق العمل والحركة وتلبية الطاقات والأشواق ، لا كبتها أو كفها عن العمل .
ومن ثم تتحقق صفة " الواقعية " للمنهج الإسلامي الموضوع للحياة البشرية ، ويتسنى للإنسان أن ينطلق بكل طاقاته ، يعمر في هذه الأرض ويغير ، وينمي في موجوداتها ويطور ، ويبدع في عالم المادة ما شاء الله له أن يبدع بدون حواجز أو قيود متناسقا ومتمشيا مع : ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (7) .
(1) سورة القصص ، الآية 77 .
(2) سورة البقرة الآية 168 .
(3) سورة البقرة الآية 172 .
(4) سورة الأعراف الآية 32 .
(5) رواه أبو داود ، ك الجهاد ، ب : في السبق على الرجل ، 3 / 30 وابن ماجه ك : النكاح ، ب : حسن معاشرة النساء ، 1 / 636 . وقال البوصيري في الزوائد : إسناده صحيح على شرط البخاري .
(6) رواه البخاري ، ك العيدين ، ب : سنة العيدين لأهل الإسلام ، 2 / 445 .
(7) الآية رقم 30 سورة الروم .